مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل عشرين عاما كانت البداية عرفت - لاول مرة - بمصير الاميرة بديعة ( الناجية الوحيدة من مذبحة قصر الرحاب ببغداد صبيحة 14 تموز يوليو 1958 ) مطلع الثمانينات من القرن الماضي بالعراق , من انها ما تزال على قيد الحياة وتعيش بلندن . ذلك يوم سمح صدام بالنشر عن العهد الملكي , تثمينا لموقف ملك الاردن ( الراحل ) حسين بن طلال , المساند له في حربه المدمرة على ايران.
ومن يومها - قبل عشرين عاما - تمنيت في داخلي ان التقي ( اخر الاميرات ) لاسالها عما حدث , ولتحكي لي قصة اهلها ملوك وامراء الشام والحجاز والاردن والعراق . فقد قرات الكثير من الاصوات , العالية منها والخفيضة , الا صوتهم ظل غائبا لم يسمعه احد !
الوصول الى لندن
مطلع العام 1993 م وصلت الى لندن , بعد رحلة شاقة من اللجوء الى بلدان الجوار ( السعودية وايران ) في اعقاب انتفاضة العراق في الاول من اذار 1991م . كان اول سؤالي في عاصمة الضباب عن الاميرة بديعة , فقيل لي ان مجلسا تابينيا يقيمه زوجها ( الراحل ) الشريف حسين بن علي , في 14 تموز من كل عام , هنا على ارواح شهداء العائلة العراقية المالكة .
آثرت وقطعت عهدا على نفسي , بان احضر ذلك المجلس في كل عام , بدلا من حضور حفل يقيمه عراقيون اخرون فرحا ب ( ثورة تموز ) لا لشيء سوى لاننا - كعراقيين - اعتدنا على حضور الماتم والعزاءات اكثر من ارتيادنا مجالس الفرح والمسرات , فحياتنا في العراق منذ ولدنا والى يوم نموت عبارة عن احزان وعذابات . ثم لشعوري - ولشعور كل العراقيين - بظليمة ما تعرض له البيت العراقي المالك من جريمة ابادة منكرة عام 1956 م .
على مدى ست سنوات من تواجدي المتواصل ( للاعوام 1993 م - 1998 م ) بالمجلس التأبيني , كنت اجلس في خانة الرجال المعزين قبالة الاميرة المعزاة , في صالة كبيرة لاحد الفنادق الفخمة وسط لندن . انظر اليها مجللة بالسواد من قمة راسها الى اخمصي قدميها .
لاارى سوى دموع براقة , تنحدر بحرارة , وتنساب بغزارة على خديها من دون توقف , وحسرات تتكسر في صدر سيدة وقور محترمة , وبدن يرتعش و يهتز لارق الكلمات والمعاني و على ايقاع ترتيل خاشع لآيات من الذكر الحكيم .. انظر اليها فانفجع لمنظرها ويقشعر له بدني .
في يوم الاثنين 14 تموز 1997 م تليت كلمات مؤثره في المجلس التابيني , ابكت الاميرة بمرارة , ما دفعني في ختامها الى التقدم اليها لمواساتها والسلام عليها شخصيا . واغتنمت الفرصة وقلت لها : اما آن الاوان ياسمو الاميرة ان تحكي قصتك للتاريخ ؟ لااظن يصح ان تظل الوقائع والاحداث حبيسة صدر لا يعلم متى سيرحل عن هذا العالم الغريب !
صادف في نفس ذلك اليوم بالضبط , ان نشرت لي صحيفة الحياة اللندنية مقالا مطولا عن الاوضاع في تركيا , وخرجت مجلة الوسط اللندنية ايضا بمقابلة صاخبة , اجريتها مع رئيس الوزراء العراقي الاسبق في العهد الملكي ( المرحوم ) الدكتور محمد فاضل الجمالي . احاطت الاميرة علما بها منذ الصباح .. ولهذا حينما تقدمت بطلبي , اطرقت قليلا ثم رفعت راسها وقالت : نعم ساحكي لك ما تريد .
مشروع كتاب
لم تكن الاميرة بديعة تتصور - لاول وهلة - من طلبي منها , هو في حقيقته مشروع كتاب بروايتها عن العهد الملكي , انما اقصى ما تصورته هو انني ساجري معها مقابلة صحفية لنشرها في الصحف والمجلات , لا اكثر ! ولذا حينما اعربت لها - منذ اول زيارة لي في بيتها - عن فكرة تطوير موضوع المقابلة الصحفية الى كتاب , فكرت قليلا ثم ابتسمت , حتى وافقت في نهاية المطاف .
اما من ناحيتي فقد قلت في نفسي لو انها تكتمت , او امتنعت عن الادلاء بمعلوماتها , فسوف اكتفي بنشر ما تجود به في احدى الصحف او المجلات في تموز يوليو من العام القادم 1998 م , تحت عنوان مثير وضعته مسبقا ( بعد اربعين عاما من الصمت على مجزرة قصر الرحاب الاميرة بديعة تروي قصتها للتاريخ ) . ولكن ما ان شرعنا بالحديث عن الذكريات و حتى انطلقت الاميرة تروي حكايات يعود عمرها الى نحو مائة عام خلت !
في 14 تموز يوليو 1998 م اعلنت ( في كلمتي باخر مجلس تابيني عام تعقده العائلة العراقية المالكة بلندن ) عن كتاب للاميرة سيصدر بعنوان ( مذكرات سيدة الاميرات ) وهو الذي اختاره الشريف علي بن الحسين ( نجل الاميرة ) بدلا من ( مذكرات بنت الملوك ) .
كان الشريف محقا في اختياره ذاك , بيد ان تاخر صدوره طوال تلك المده منحني فرصة لاختيار عنوان ( مذكرات وريثة العروش ) كيف لا وهي وريثة ملوك وملكات بني هاشم ؟
تسجيل المذكرات
استغرقت عملية تسجيل المذكرات حوالي اربع سنوات متقطعة , امتدت من صيف عام 1997م الى صيف 2001 م . اعتمدت انا على ظرفينا ( الاميرة وانا ) من مشاغل والتزامات , امراض سفرات , حوادث طارئة حالت بعضها دون لقائنا لفترة طويلة , خاصة بعد وفاة ( زوج الاميرة ) المرحوم الشريف حسين بن علي في مطلع تموز يوليو عام 1998 م , فضلا عن التوقيت السياسي الملائم لنشرها , الذي كنت انتظره على مضض طوال تلك السنوات , وهاهو قد حان الان .
تم التسجيل على اشرطة ( كاسيت ) في اغلب الاحيان , او تدوينها على الورق خلال اللقاءات , او استقبال الملاحظات اثناء المكلمات الهاتفية في بعض الاحيان . اتبعت تارة المباغته بالحديث , كي استكشف مكنون الاميرة واسجل رد فعلها بعفوية , واخرى طريقة التهيئة والاعداد للموضوع , كأن اقول لها في المرة القادمة سنتكلم عن هذه المسالة او تلك , حتى تستحضر ذكرياتها .
كثيرة هي المواقف المحرجة التي مررنا بها , فكم من مرة انتابتني هواجس مخيفة وانا انظر الى الاميرة تبكي بحرقة , خاصة عندما تستذكر حدثا مؤلما , او انسانا عزيزا عليها رحل عن عالمنا مغدورا .غير ان ما كان يبدد تللك الهواجس لدي امران : هو ان بكاءها ينهدر بكبرياء واعتداد بالنفس , لا بكاء الضعفاء والمنكسرين .
الثاني : هو انني كنت اسارع الى اخراجها من ذلك الجو المفجع الكئيب الى اجواء الافراح والمسرات , كان اسالها مثلا عن طفولتها او ايام عرسها , او حبها للشريف حسين , او ما الى ذلك من اسئلة , ليتغير الجو مؤقتا حتى نعود الى اكمال الموضوع ! وبالرغم من هذا كله فانا لااكتم من انني ابقى متوجسا في نفسي عليها , من ان يحصل اي مكروه لها - لاقدر الله - سيما وهي سيدة كبيرة و مريضة , فاكون انا السبب في ازعاجها , او ايلامه من دون قصد .
كتابة المذكرات
حينما اؤلف كتابا اكون انا مصدره وراويه , اتمتع بحرية كاملة في البحث والنقل والنتائج التي اخلص اليها . بينما حينما اكتب كتابا لغيري , اشعر بمسؤولية اخرى تثقل كاهلي , ففضلا عن الدقة في البحث و الامانة في النقل والقوة في العرض , تبرز مشكلة كيفية ايصال حقيقة ما يود الراوي ايصاله الى المتلقين , من مشاعر و معلومات و تعابير . وتتضاعف المشكلة عندما يكون الراوي ( سيدة ) والناقل رجلا ( كما نحن عليه الان ) اذ كيف يستطيع الرجل ( هنا ) ان يتقمص احاسيس وخلجات امراة , ليعكسها بصدق وموضوعية الى الناس ؟!
لذا امل بانني قد وفقت في اداء هذه المهمة , بغض النظر عن مدى اتفاقي او اختلافي مع الاميرة ) ( صاحبة المذكرات ) فيما روت , او قيمت . اذ ليس بالضرورة انه يتعين على ان اتبنى , او حتى اتخلى عن كل ما ورد هنا بيد ان شيئا مهماواحدا اتحمله دون مواربة , والمسؤولية الكاملة عن كتابة المذكرات و نشرها .
وهذا ما يدفعني لاحقا الى ان اشجع كتابا عربا اخرين , الى ان يكتبوا بانصاف , او يجروا مقابلات تاريخية مع رجال العهود السابقة في بلدانهم , ويقارنوا بما الت اليه اوضاعهم الحالية في ظل انظمة جمهورية دكتاتورية استبدادية بغيضة . فانا على يقين من انهم سيكتشفون بانفسهم , بانهم كانوا ضحية سياسات تثقيفية مزيفة , طوال خمسة عقود من القرن الماضي . وفي اكثر من بلد عربي !
منهج البحث
لم نسجل الحوادث والتواريخ بانتظام وفقا للتسلسل الزمني , وانما تم ذلك طبقا لما كانت تتذكره الاميرة من وقائع , وقت سردها , على ان اتكفل انا بامر اعادة صياغتها و ترتيبها ووضعها في مكانها المناسب لاحقا .
بديهي ان الاميرة لم تطلع على كل ما كتب عن العهد الملكي بالعراق او غيره من البلدان , بسبب الحظر الذي فرضه عليها زوجها الشريف حسين بن علي - كما تذكر هي - احتراما و حماية لها . ولكنها ما ان شرعت تسرد مذكراتها , حتى بدات ازودها بالمصادر التي لم يتسن لها قرائتها من قبل , لا بل رحت احيانا اتلو على مسامعها بنفسي بعض القراءات , كي ترد عليها .
عندها صرنا امام ثلاثة خيارات . وهي اما ان ترد الاميرة عن كل ما كتب بحقهم - كعائلة مالكة - من اتهامات واراجيف , فقرة بفقرة وجملة بجملة. وهذا سيتطلب وقتا وجهدا مضنيين , ليس هناك من امل معهما ان نفرغ من هذا المشروع في المنظور القريب .. لهذا صرفنا النظر عن هذا الخيار .
او ان تروي الاميرة ما حصل و على ان اقوم انا بتوسعة البحث وتحقيقه وتعضيده بالروايات والمراجع والهوامش , ليكون اقرب الى البحث الاكاديمي منه الى الشهادة التاريخية .. وهذا مالا نفضله , لاننا لم نكن بصدد الحصول على اجازة جامعية !
او - هذا هو الخيار الثاث الذي اخذنا به - ان تحكي الاميرة قصتها للتاريخ كمصدر وحيد وفريد لرواية الحدث, على ان اقوم انا بصياغته . اذ من خلال هذا الطريق تستطيع ان تقول اشياء كثيرة , وان ترد على الكثير من الاساءات والطعون التي قيلت بحق العائلة المالكة و من دون ان تشير الى اسماء محددة بالذات , الا في حالات نادرة ولاعتبارات سياسية وتاريخية خاصة .
وهكذا كان . وعليه لابد من التنويه الى كل كلمة وردت في هذه المذكرات تتضمن معنيين . الاول : هو الرواية الحقيقية التي تتبناها الاميرة بديعة والعائلة المالكة . الثاني : هو الرد على المزاعم الباطلة التي وردت في الكتب والمؤلفات . ولذا فان اي مناقشة مستقبلية لهذه المذكرات , سوف لا تعدو الاجابة عليها مما ورد في هذا الكتاب .
خطة البحث
نستطيع القول بانه كان لدينا - منذ البداية - تصور كامل لخزل خطة البحث , اي كيف نبدا بتدوين المذكرات وكيف ننتهي منها , وما هي الصورة الاولى التي ستطبع في ذهن القاريء , وما هي الصورة الاخيرة التي سيخرج بها .. لهذا لم نلاق اية صعوبة في اعداد الخطة .
كنا قد ارتاينا تقسيم الكتاب الى خمسة فصول - اول الامر - الا ان اعتبارات فنية وشكلية ( ليست موضوعية ) هي التي اضطرتنا الى تقسيمه الى ستة فصول فيما بعد , تخللتها مباحث رئيسية صيغت عناوينها بخط مميز , ثم مطالب فرعية كي لانثقل على القارئ الكريم بطول السرد بسبب تباعد العناوين وقلتها .
لم نلتزم منهجا محددا واحدا لم نحد عنه خلال البحث , كان يكون السرد مثلا وفقا للتسلسل الزمني للاحداث فقط , او وفقا لوحدة الموضوع واهميته فقط ( بغض النظر عن عامل الزمن ) , او وفقا لاسماء الشخصيات الواردة في المذكرات . انما خلطنا - في الحقيقة - بين هذه المناهج , فمرة تحكم بنا عامل الزمن واخرى اهمية الموضوع وثالثة مكانة الشخص .. وهكذا .
توقفنا في الكتاب عند محطات تاريخية مهمة وقعت في القرن الماضي سواء بالعراق او بالبلدان الاخرى التي حكمها انجال ملك العرب الشريف الحسين بن علي . كقصة رحيل الاشراف عن موطنهم الاصلي ( الحجاز ) , وحياة القصور بما فيها من افراح واتراح , وحقيقة وفاة الملك غازي , وخفايا حركة رشيد عالي الكيلاني كاول نكبة سياسية تعرضت لها العائلة المالكة , ومذبحة قصر الرحاب , وقصة مغادرة الاميرة بديعة العراق بعد 14 تموز ( يوليو ) 1958 م , وعشرات القصص والموضوعات الاخرى , التي كتب عنها والتي لم يكتب عنها الى اليوم .
لقد طرقنا ابواب لا تخطر على بال احد . تحدثنا عن رجال ونساء لعبوا ادوارا خطيرة في التاريخ , وكان لهم شانهم في الاحداث , لم يكتب عنهم بانصاف وموضوعية لحد الان , فتحنا موضوع ( وطنية الاشراف ) الذي ظل على مدى قرن من الزمن يطرق باب الاتهام والتخوين , من دون ان يدافع عنهم احد , او بالاحرى من دون ان يدافعوا عن انفسهم , حتى صدحت الاميرة بديعة بالرد الصاعق والجريء !
لاشك في ان هناك من يستحقون الشكر على ما قدموه لنا من دعم ومسانده لاخراج المذكرات , ولعل اولهم زوج الاميرة الراحل الشريف حسين بن علي و الذي لم يبخل هو الاخر علينا ببعض ذكرياته , والذي امل ان ياتي اليوم الذي ننشرها فيه باذن الله .
كما نشكر انجال الاميرة , الشريف محمد بن الحسين على مساندته لي وتشجيعه لوالدته الاميرة على البوح بالكثير من الاسرار , والشريف عبدالله بن الحسين اذي تابعها من بعيد , وكذلك الشريف علي بن الحسين الذي ظل يسأل عن المذكرات باستمرار ، واخيرا وليس اخرا الوزير في العهد الملكي الاستاذ عبد الغني الدلي , الذي راجع المذكرات وابدى ملاحظاته القيمة بشانها . لهؤلاء ولكل من وقف معنا او حثنا على انجاز المشروع , او انتظر المذكرات بفارغ الصبر .
قيمة المذكرات
لهذه المذكرات ميزة خاصة انفردت بها عن كل ما كتب وقيل الى اليوم عن العهد الملكي السابق - ستنحث عنها بعد قليل - غير ان الجرأة و الصدق والعفوية مميزات اخرى غلفت المذكرات .
لا تكاد صفحة من صفحاته خلت من نقد , او تقييم سياسي لاذع احيانا , او خفيف في احيان اخرى .
وقد يظن قارئها - لاول وهلة - بان الاجتماعيات طغت على السياسيات فيها , وربما فاته ان الاجتماعيات هنا ذات ايحاءات ومدلولات سياسية , ناهيكم عن كون المذكرات سياسية الاصل .
اما ميزتها الخاصة والفريدة , تختزلها ما خط على الغلاف من انها ( اهم وثيقة عربية في القرن العشرين )
مصدر هذه الاهمية اتت من اهمية ومكانه رواية المذكرات . فهي الاميرة الوحيدة الناجية من ( مذبحة قصر الرحاب ) عام 1958 م , وما تزال تعيش الى اليوم , وهي الحفيده الوحيدة - الباقية على قيد الحياة - لملك العرب وقائد الثورة العربية الكبرى عام 1916 م وامير مكة المكرمة الشريف الحسين بن علي . وهي الابنة الوحيدة لملك الحجاز علي بن الحسين( 1924 - 1926 ) بعد رحيل اخيها الامير عبد الاله , واخواتها الاميرة عبدية والاميرة جليلة والملكة عالية , وامها الملكة نفيسة . وهي خالة الملك فيصل الثاني , وابنة عم الملك غازي والملك طلال , اعمامها ملك سورية والعراق فيصل الاول , وملك الاردن عبد الله والامير زيد بن الحسين ولا نطيل .
لقد مرت الان اربع واربعون سنة على مغادرتها العراق , لم يستطع احد خلالها ان يستنطق الاميرة بديعة , لتروي له قصة اهلها ملوك وملكات , امراء واميرات , اشراف وشريفات الشام والحجاز والاردن والعراق . كل الناس اعطوا رايهم فيما جرى , الا اصحاب الشان وارباب القضية .. ولهذا لاول مرة في التاريخ تحكي لنا القصة من اولها , اخر الاميرات بديعة .
فائق الشيخ علي
لندن في ( الاحد ) الثلاثين في شهرحزيران ( يونيو ) 2002 م
=====================================
الحديث لسمو الاميرة بديعة
بسم الله الرحمن الرحيم
حينما اقلعت بنا الطائرة ( انا و زوجي واولادي الثلاثة ) من بغداد و في ذلك اليوم القائض , الثاني عشر من شهر اب ( اغسطس ) عام 1985 م , حسبت بان الطيار سيحلق - مثل كل مرة - فوق ( قصر الرحاب ) ليمكنني من القاء نظرة عليه , وهي ستكون نظرة الوداع في هذه المره , لاشاهد ما عبث الانقلابيون فيه . لعلي المح احدا من اهلي , ربما نسوا ان يقضوا عليه , فانزوى مختبئا هنا او هناك !
غير ان الطيار خيب ظني مع للاسف , كانه رأف بحالي , وهو يعلم بان الراكبة معه , هي الاميرة الوحيدة الناجية من مذبحة العائلة العراقية المالكة في قصر
( الرحاب ) فلم يشا ان يفزعني , او يحرق قلبي , حتى لمجرد مشاهدة اطلال قصر , او بقايا عائلة حكمت العراق ل ( 37 ) سبعة وثلاثين عاما . او كانه - وهذا ما ارجحه - اراد ( مأمورا ) ان يجعل تلك الامنية غصة في صدري , وجرحا غائرا لن يندمل , يبقى يؤرقني ما حييت ! .. لهذا استدار مائلا على الجهة الاخرى , وطار , ليتركني اسيرة دموعي واشجاني , اتامل بغداد الجميلة واهلها الطيبين , وارق لحالهما من قسوة حكامهما الجدد .
لم احمل معي من العراق , سوى بضع حقائب , احتوت على بعض صور وذكريات , وملابس بلت وتبدلت , لم يبق بما حملته شيء , عدا ذكريات عالقة في الذهن , كنت ارويها لاولادي الاشراف , محمد وعبدالله و علي , واتذاكرها مع زوجي المرحوم الشريف حسين بن علي , ولم يخطر في بالي باني ساحكي قصتنا للناس يوما , وان كنت قد تمنيت ذلك , حتى باغتني كاتب هذه المذكرات .
لاادري كيف اقنعني بضرورة تدوين ما جرى! وكل ما اعلمه هو انه قال لي ( لااظن يصح ان تضل الوقائع والاحداث حبيسة صدر , لايعلم متى سيرحل عن هذا العالم الغريب ) .
اربعون عاما كانت قد مرت حتى عام 1997 م على انقلاب 14 تموز 1956 م في العراق , ولم يسال عني احد , ولم يطلب مني احد - شخصيا - ان اروي له ما حدث , وكل ما حصل هو ان البعض طلب من ولدي الشريف علي , وليس مني , ان يجري معي مقابلة , وقبل فترة وجيزة ومتاخرة جدا ( اي بعد ان تم الاعلان عن البدء في تسجيل مذكراتي ) اتصلت بعض المحطات الفضائية العربية , تطلب اجراء مقابلات تلفزيونية معي , للتحدث عن العهد الملكي فرفضت .
لقد قصر الاعلام بحقنا تقصيرا بينا و طوال تلك السنين , حتى التقاني فائق الشيخ علي , وعرض علي فكرته , فوافقت .
.. وهكذا راح يزوروني ويهاتفني , يداهمني بسيل من الاسئلة والاستفسارات و كم مرة تركني اتململ , لا يغفو لي جفن , ولايهدا لي بال , استذكر حدثا اغفلته , او واقعة تجاوزتها , ظانة عدم اهميتها و كم من مرة سهرت ليلى استثير ذاكرتي , منقبة عن بعض خباياها و خفاياها , تلك التي زواها الزمن بعيدا عني .
كل ذلك من اجل ان ارويها للتاريخ , كي يطلع عليها الناس , سواء اولئك الذين عاصرونا , او الذين جاءوا بعدنا وليتعرفوا على حياة اسرة , حكمت - وما زالت وستبقى بحول الله - تحكم دولا وشعوبا في عالمنا العربي .
لا اظن انني اتذكر كل ما جرى في حياتنا , ولا ان كل ما اقوله هو الحقيقة المطلقة , التي لا تقبل الوجه الاخر لها . فانا سيدة واميره هاشمية علوية , ولدت وتربيت , نشأت وترعرت في بيوت , او سموها ( قصور ) محافظة لاشراف العرب . لم يكن من شانها ان تسال كل شيء , ولا من هواياتها حب الاطلاع والفضول . ولعل الامر الذي بقيت نادمة عليه منذ 1958 م والى الان , هو انها لم تسال اهلها عن اشياء , ودت اليوم ان تعرفها !
لذا فان ما ارويه , هو عبارة عن وقائع و احداث عشتها بنفسي , ومشاهدات شاهدتها بعيني وحكايات سمعتها باذني من اهلي .
اسردها كما هي , وعلى سجيتي , من دون تصنع او غايات , واترك لكاتبها حرية صياغتها , او تبويبها , او البحث عنها في بطون الكتب والوثائق كما يشاء , وللاخرين امر تفسيرها او تاويلها , او اتخاذ المواقف منها كما يريدون .
لم اقل في الكتاب كل ما عندي , ولكن ما في الكتاب هو معظم ما قلته , وبعضه في صدري او صدر كاتبه , ربما لاتسمح الظروف لكشفه الان . غير ان ما قلته هو الذي يرضيني , واحسبه سيرضي اهلي واحبابي .
وقبل هذا وذاك , فاني لا ابغي سوى مرضاة الله ( سبحانه و تعالى ) فهو القاضي وهو الحكم , واليه انيب , وعليه توكلت , ولاحول ولا قوة الا بالله العلي القدير .