أسمحلي أستاذي بهذه المداخله والمرور الذي آمل أن يضيف على طرحكم الشرعية وأنما نحن نقر على ما طرقت
ونتوقف على البعض وتقبلوا تعليقي بما يحقق التفاعل ووالله يبارك فيكم
هناك اشياء كثيرة يحس بها الانسان عن طريق حواسه، وهناك اشياء كثيرة اخرى يحس بها، ولكنها ليست ملموسة، فالاولى هي الاشياء المادية، والثانية هي الامور المعنوية .
وفي القرآن المجيد اشارات الى كلا البعدين المادي والمعنوي في الانسان، فهو يتكلم على جسم الانسان وحاجاته المادية:
ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين . ثم جعلناه نطفة في قرار مكين . ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشاناه خلقا آخر . فتبارك الله احسن الخالقين (23/12- 14) كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه (20/81) وهو يتحدث عن البعد المعنوي في الانسان وخصائصه و امكاناته . فهو، مثلا، يشير الى قدرة الانسان على التعلم (الذي علم بالقلم . علم الانسان ما لم يعلم .(96/3- 5
اتجاهات النفس الانسانية و امكاناتها
في النظرة القرآنية، ليس الانسان محكوما للقدر، بل هو قادر على ان يختار طريقه في الحياة :
انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا (76/3) ولكن، مع ذلك، لم يترك ليعبث كما يشاء :
ايحسب الانسان ان يترك سدى (75/36) في واقع الامر، جهز الانسان بمختلف الميول والامكانات، مثل :
1 . بعض الادراك عن الحسن و السيء :
ونفس وما سواها . فالهمها فجورها وتقواها (91/7- 8) 2 . شيء من الهداية الفطرية :
قال ربنا الذي اعطى كل شيء خلقه ثم هدى (20/50) فطرت الله التي فطر الناس عليها (30/30) 3 . حرية الارادة :
وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر (18/29) فكل واحدة من هذه الامكانات والمعالم توجه الانسان وجهة معينة ، بعضها بناء وبعضها هدام . ان من بين اهم امكانات النفس الانسانية البناءة ما يلي :
1 . الميل اللا ارادي نحو البحث عن الله :
«واذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على انفسهم الستبربكم قالوا بلى شهدنا . . .» (7/172)
2 . الميل نحو التقدم المستمر :
«يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه» (84/6)
3 . الميل نحو البحث عن الحقيقة وحب العدالة والعلم ووقاية النفس وامثال ذلك .
هذه الميول تكوينية بالقوة في ابناء البشر ويمكن السيطرة عليها، وللانتقال بها من بالقوة الى بالفعل ، ينبغي على الانسان ان يعد لذلك عدته . فاذا سعى المرء في انجاح ميوله البناءة هذه فقد يصبح خليفة الله في الارض . ولكن، من الناحية الاخرى، اذا لم يسع سعيه ذاك واسلم نفسه للرخاء المادي فحسب ، فان امكاناته الهدامة سوف تتاح لها الفرصة للتطور والنمو، فيصبح، تبعا لذلك، في اسفل السافلين :
«ثم رددناه اسفل سافلين» (95/5) ان وجود هذه الميول المتضاربة في الانسان هي التي وضعته موضع الامتحان :
«انا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا» (76/2) وان ما يملكه الانسان من حرية في الارادة وموهبة للتعلم هما اللذان جعلاه مخلوقا مسؤولا :
«. . . ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا» (17/36)
الحياة المادية سلم للحياة المعنوية في القرآن المجيد وفي السنة النبوية اشارات متعددة الى «الدنيا» وفيهما نقد شديد للدنيوية . من البديهي ان الدنيوية لا تعني الارض والسماء وما الى ذلك ، فهذه من مخلوقات الله . ان المقصود من الدنيا و الدنيوية هو الاقتصار على الشؤون المادية فحسب . يرى الغزالي (2) ان الدنيا هي الاشياء الموجودة في هذا العالم ، والتي فيها للانسان حظ ومتعة ، وعليه ان يعمل ليجعلها تنفع حياته ، اي انها تخلق له العمل :
«زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث . ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب» (3/14) هذه الآية تؤكد هذا الراي ، فتلك هي الاشياء التي تخلب لب الانسان وتمنعه من التفكير في خلق الله وقرب الانسان منه . يقول القرآن ان الحياة الدنيا لهو ولعب وتفاخر وطلب المزيد من الثروة والولد ، ويراها تافهة حقيرة :
«اعلموا انما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد . كمثل غيث اعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان . وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور .» (57/20) وفي الآية التالية يدعو الله الناس الى السباق الكبير الذي هدفه نيل مرضاة الله :
«سابقوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض اعدت للذين آمنوا بالله ورسله .» (57/21) ثم يذكرنا بحقيقة كون جميع المصائب الطبيعية انما هي مكتوبة من قبل :
«ما اصاب من مصيبة في الارض ولا في انفسكم الا في كتاب من قبل ان نبراها» (57/22) هذه المصائب تهيب بنا ان لا نكون عبيدا لبهارج الحياة ، وعلى المرء ان لا يحزن لما فاته ولا يفرح بما عنده :
لكيلا تاسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم (57/23) وذلك لان الحياة في هذه الدنيا عابرة، ولان متعها لا يمكن ان نقارنها بالحياة المعنوية ، فينبغي على الانسان ان لا يقتصر على الشؤون الدنيوية، وان لا يشغل نفسه بالامور المادية بحيثينسى هدف الحياة وهو التقرب الى الله :
يا ايها الذين آمنوا لا تلهكم اموالكم ولا اولادكم عن ذكر الله ، ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون (63/9) الا ان الانسان ينبغي ان لا يهمل الجانب المادي :
ولا تنس نصيبك من الدنيا .(. . 28/77) و الا فان المرء لن يجد مطية لهذه الرحلة الروحية . ان اهمية الحياة المادية تكمن في كونها مجرد مرحلة انتقال، لذلك ينبغي ان لا يحسبها المرء غاية بذاتها :
المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير املا (18/46) ولئن كان الانسان مزودا بالوسائل المادية ، فما ذلك الا لانها ضرورية لتكامله، فالله لم يخلق شيئا عبثا (23/115)، والافضلية للحياة المعنوية، وعلى الحياة المادية ان تكون في خدمة الحياة المعنوية :
انا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوكم ايكم احسن عملا (18/7) يروي الامام فخر الدين الرازي في تفسيره للآية (57/20)، عن سعيد بن جبير (3) :
«الدنيا متاع الغرور اذا الهتك عن طلب الآخرة، فاما اذا دعتك الى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم الوسيلة .»
خصائص الحياة المعنوية جاء في القرآن المجيد ان الله سبحانه وتعالى قد خلق المخلوقات لكييعبدوه ويبتغوا رضوانه :
وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون (51/56) والعبادة ، في معناها الاعم ، تشمل كل ما يجعل الانسان اقرب الى الله . لذلك ينبغي على الانسان ان يتعرف ما يزيد في تسارع هذا التحرك وما يحول دون ذلك . الحياة المعنوية ، في المنظور الاسلامي ، هي تلك الحياة التي يكيف فيها المرء نفسه مع الامر الالهي بهدف القرب منه :
قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (6/162) ان اهم العوامل التي تحول دون تكامل الانسان معنويا وتلوث روحه هو الانقياد للهوى والتعلق بجوانب الحياة المادية :
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله (38/26) فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا (4/135) زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة (2/212) ان سيطرة الاهواء على الانسان تجعل الظلام يغشى روحه وتسمح للصفات الذميمة بالظهور :
افرايت من اتخذ الهه هواه واضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله؟ .(. . 45/23) ولقد قال الامام علي (ع) :
«الا ان اخوف ما اخاف عليكم خصلتين (4) : اتباع الهوى وطول الامل . اما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وطول الامل ينسي الآخرة .» (5)
اذن، من اجل نيل السعادة والعبور الى الجنة، على المرء ان يطهر نفسه وان يصارع رغبته في اللذات المادية :
قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها (91/9 و 10) ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون (59/9) جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى (20/76) ان النتيجة الكبرى لتزكية النفس هي نمو حالة مهمة تسمى (التقوى)، وهي حالة يصبح فيها المرء مصونا عن ارتكاب الاثم، وقادرا على كبح اهوائه، ويتقدم نحو الله تحت قيادة فكره النقي :
ان الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون (7/201) ولهذا يرى القرآن التقوى هي الاساس لتطور المرء وتكامله .
افمن اسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير ام من اسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين (9/109) يعتبر القرآن الكريم التقوى خير زاد للآخرة :
وتزودوا فان خير الزاد التقوى (2/197) ويراها هي معيار الافضلية على سائر المخلوقات :
ان اكرمكم عند الله اتقاكم (49/13) ومن اهم النتائج الثانوية للتقوى ما يلي :
1 . التقوى تخفف عن القلب وتمكن المرء من التمييز بين الحق والباطل : يا ايها الذين آمنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا (8/29) واتقوا الله ويعلمكم الله (2/282)
2 . التقوى حصن الايمان :
واتقوا الله ان كنتم مؤمنين (5/57) وتعد المرء للقيام بالصالحات من الاعمال :
ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب (22/32) لا يستاذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ان يجاهدوا باموالهم وانفسهم والله عليم بالمتقين (9/44) ولا شك في ان الايمان والعمل الصالح يؤديان الى حياة طيبة :
ومن يعمل صالحا من ذكر وانثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون (16/97)
3 . يذكر القرآن الكريم ان المتقين يتفكرون في آيات الله في الكون :
ان في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والارض لآيات لقوم يتقون (10/6) هذه الآية والآيات التي سبق ذكرها تدل على ان للتقوى ، بالمفهوم القرآني ، معاني غنية جدا ، وان من يتصف بها يكون قد حاز على جميع ما تقتضيه الحياة المعنوية . ان من كان هذا شانه لقادر على تجنب وساوس الشيطان ، ويملك ما يتطلبه القيام بالاعمال الصالحات ، وله المؤهلات الفكرية اللازمة للتفكر في جميل صنع الله ، ويدرك معنى الحياة والغرض منها ، ولن تهزه الاحداث والنكبات ، وهو ، لتوجهه نحو الله ، يكون قد بلغ مرحلة الطمانينة والهدوء .
الا بذكر الله تطمئن القلوب (13/28) وللامام علي (ع) كلام رائع في وصف الذين تمكنت التقوى من قلوبهم :
«فالمتقون فيها هم اهل الفضائل ، منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع . غضوا ابصارهم عما حرم الله عليهم ، ووقفوا اسماعهم على العلم النافع لهم . نزلت انفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء . ولو لا الاجل الذي كتب لهم لم تستقر ارواحهم في اجسادهم طرفة عين شوقا الى الثواب ، وخوفا من العقاب . عظم الخالق في انفسهم فصغر ما دونه في اعينهم ، فهم و الجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون . . .
واجسادهم نحيفة ، وحاجاتهم خفيفة ، وانفسهم عفيفة . صبروا اياما قصيرة اعقبتهم راحة طويلة . تجارة مربحة يسرها لهم ربهم . ارادتهم الدنيا فلم يريدوها ، واسرتهم ففدوا انفسهم منها . . .
فمن علامة احدهم انك ترى له قوة في دين، وحزما في لين، وايمانا في يقين، وحرصا في علم، وعلما في حلم، وقصدا في غنى ، وخشوعا في عبادة، وتجملا في فاقة، وصبرا في شدة ، وطلبا في حلال، ونشاطا في هدى، وتحرجا عن طمع . . . يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل . تراه قريبا امله، قليلا زلله ، خاشعا قلبه، قانعة نفسه، منزورا اكله، سهلا امره، حريزا دينه ، ميتة شهوته ، مكظوما غيظه . الخير منه مامول، والشر منه مامون . . .» (6)
لو ان صاحب ايمان وتقوى ربى قابليته الفكرية و وجهها للتامل في آيات الله في الكون، لبلغ تلك المرحلة التي يصبح فيها خليفة الله ، تلك المرحلة التي جعلت الملائكة يسجدون (سورة البقرة، الآيات 31- 34 .) ولئن بلغ الانسان هذا المبلغ لاصبحتيد الله يده، وعين الله عينه . . . قد جاء في حديثشريف عن نبينا (ص) ان الله سبحانه و تعالى قال :
«وانه ليتقرب الي بالنافلة حتى احبه، فاذا احببته كنت اذا سمعه الذييسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها. ان دعاني اجبته وان سالني اعطيته .» (7)
هكذا هي الحياة المعنوية، حياة مليئة بالرضى والتقرب الى حضرة المليك المقتدر .
وأتمنى أن تكون الحياة في نظرنا جميعاً بعون الله تعالى ويعلم الله أنني أحبكم في الله وأعتذر على الإطالة
وشكراً على طرقكم هذا الشق الهام في حياتنا وتقبلوا بسمو تقديري لكم جميعاً وخصوصاً
أستاذي صحب الموضوع
تلميذكم