07-24-2006, 05:50 AM
|
المشاركة رقم: 1 |
المعلومات | الكاتب: | | اللقب: | عضو | الصورة الرمزية | | البيانات | التسجيل: | Jan 2006 | العضوية: | 7 | المشاركات: | 1,814 [+] | بمعدل : | 0.26 يوميا | اخر زياره : | [+] | معدل التقييم: | | نقاط التقييم: | 10 | الإتصالات | الحالة: | | وسائل الإتصال: | | | المنتدى :
الحكواتي آهات غربتي آهات غربتي
بقلم / بيسان سيف
أخذت رياح يناير الباردة تعاندها عند فتحها لباب الشرفة ، وما أن فتحته حتى أحست بالبرودة تقتحم الدفء الذي كانت تشعر به وهي بالداخل .. وضعت سلة الغسيل على أرضية الشرفة .. وأحكمت لف معطفها المنزلي على خصرها .. أمسكت خصلة سوداء اللون هاربة من تحت منديلها الأبيض وسوّتها ..
.. أطلّت برأسها من الشرفة لترى إن كان هناك مارة بالشارع أم لا ، وعند تأكدها من خلّوه ؛ أخذت الملابس المبتلة وبدأت بنشرها .. الجو بارد نوعاً ما ؛ وجفاف الملابس سيأخذ وقتاً أطول .. هذا ما حدّثته نفسها .
أتمّت نشر الغسيل وأقفلت باب الشرفة بسرعة ، واتجهت نحو التلفاز الذي كان مفتوحاً منذ الصباح .. فمن عادة بناتها قبل ذهابهن للمدرسة أن يشاهدن بعض الأغاني ..
جلست على الأريكة المجاورة للتلفاز .. وبدأت تقلّب في القنوات الفضائية .. وتوقفت عند القناة الفضائية الفلسطينية .. وكانت تعرض مسلسلاً .. تسابقت القنوات الفضائية على عرضه .. لكنها أرادت مشاهدة هذا المسلسل على قناتها الحبيبة .. رفعت نظرها لساعة الحائط ؛ كانت تشير إلى الحادية عشر ظهراً .. باقي ساعتان على مجيء بناتها ثم زوجها ..
أعانت نفسها على النهوض .. فقد أتعبها الغسيل اليوم .. اتجهت نحو المطبخ ؛ لترى ما ستعدّه ؛ وبدأت بتجهيز الغذاء .. بينما أصوات شخصيات المسلسل المعروض على التلفاز تصلها .. أعدت كل شيء ووضعت الإناء على النار .. واتجهت لغرفتها آملة في أخذ قسط من الراحة ..
وضعت جسدها المتعب بتراخ على سريرها .. وتمددت .. وأحبت أن لا تفكر بشيء الآن .. لكن عقلها المليء بالذكريات .. والأحلام .. أبى أن يخضع لسكونها .. وشاكسها بعرض ما حدث بينها وبين زوجها أمس .. حاولت فهم سبب تهربه منها كلما سألته عما يضايقه .. كان ينهض ويترك لها المكان .. والغريب أنه يتحاشى أن يضع عيناه في عينيها .. وكأن شيئاً قد حدث له ؛ ويخجل بالبوح به لزوجته .. عاشرته ستة عشر عاماً ولم يكن زوجها كما كان ليلة أمس .. كان عندما يغضب يتكلم ويبرر سبب غضبه .. وعندما يضايقه أمر في عمله يسرّ لها بما يضايقه .. لكن حالته أمــس أقلقتها ..
.. أيعقل أنّه .. لا .. لا .. كيف لتفكيرك أن يذهب بهذا الاتجاه ..
ابتسمت عندما راودها هذا الاعتقاد .. فلم ولن تتخيل أن يحب زوجها امــرأة غيرها .. فهي حبيبته وأمه وأخته وصديقته وزوجته .. وكل شيء ..
تذكرت يوم زفافها .. اليوم الذي تسعد به أي امرأة .. لكن بالنسبة لها .. فكان يوم احتضار عالمها الذي أحبته .. عرسها .. يوم وداع .. لفتاة ستهجر أهلها لبلد .. زوجها ينتظرها فيه .. زفت إلى عريسها الذي يبعد عنها الآف الكيلومترات .. كان يوم فراق لا يوم زفاف .. - انحدرت دمعة على خدها - .. تذكرت وجه أمها الحبيب .. حين ودعتها في الليلة قبل ليلة زفافها .. تذكرت كلماتها المشوبة بالفرح والحزن معاً .. حين أهدتها ثوباً فلسطينياً مطرزاً بيديها ..
- " بدأت بتطريزه لك مذ كنت في الثامنة عشر من عمرك .. "
أخذت الثوب الأبيض المطرز .. بيدين مرتعشتين .. ومشاعر غريبة تنتابها .. تطلعت لعيني أمها .. فرأت فيهما دفء لم تره من قبل في عينيها .. ارتمت في حضن أمها .. وأجهشت بالبكاء .. وتمنت ليلتها أن يلغى زفافها .. وتبقى .. متدفئة .. بعبق حضن والدتها الحبيب ..
انتُزعت من ذكرياتها على صوت باب يقفل .. نهضت مسرعة من سريرها .. فمن سيأتي الآن .. ما زلن البنات في مدارسهن .. وزوجها لم يأت موعده بعد .. أحست بضيق يتسرب إلى روحها لحظة ملامسة قدماها لأرضية الغرفة .. واتجهت مباشرة خارج الغرفة ..
فوجئت بزوجها يقف أمامها وعيناه مليئتان بألم كبير .. لم تنبس بكلمة واحدة .. أسندت ظهرها على الحائط المجاور لها .. فإذا بزوجها يقترب منها وقد سبقته دموعه .. واحتضنها .. وأخذ يقبل رأسها .. ويتمتم بكلمات لم تشأ حتى أن تفهمها .. فعقلها أصبح مغيّباً .. وأبى أن يستوعب ما يحدث حولها .. وأذناها رفضتا بإصرار سماع كلمات زوجها .. فبكاؤه يعني الكثير .. ومن خلال بضع كلمات هاربة علمت أن أمها توفاها الله ..
.. لم تشأ تصديق ما قاله زوجها .. فمنذ قليل كانت تحادث ذكريات والدتها .. لم تشأ البكاء .. مع أن دمعاتها ملأت عينيها .. جاهدت نفسها أن لا تبكي .. فربما الخبر كاذب .. ربما .. ؟ نظرت لزوجها تستطلع منه الحقيقة .. تمنت أن تصحو .. فربما كان كابوساً .. لكن كلمات زوجها أتت بما كانت تخشاه ..
- " لقد علمت بالأمس .. عندما اتصلوا بي في عملي .. لكنني لم أشاء أن أبلغك .. إلا عند اتصالي بأخيك اليوم صباحاً .. وقد أكد الخبر .. المرحومة ماتت فجر يوم الجمعة .. أول أمس .. ولقد .. "
هربت الكلمات من حولها .. وارتمت على الأريكة المجاورة لـــها .. وبكت .. بكـت .. هاجمتها صورة بكائها بين أحضان أمها ليلة زفافها .. كانت آخر دموع لها تبلل بها .. ثوب أمها الحبيب .. أحست بيد زوجها على كتفها .. وكلمات مغيّبة تصلها .. لكن صوت بكائها أصبح لغتها .. تمنت أن لا تعرف الكلام .. تمنت فقط البكاء .. والبكاء .. ستة عشر عاماً .. وسنة تجرّ خلفها سنة .. وأمل يجرّ خلفه أمل .. كانت تحاول مجاهدة خلال سنين غربتها .. أن تستعيد مواطنتها .. لكن لم تستطع .. حتى تصريح الزيارة .. لم تحصل عليه .. مرت ستة عشر عاماً .. تحاول قهر غربتها .. والعودة للوطن .. وتقبيل التراب الذي تدوس عليه أمها .. لكن الحبيبة رحلت دون كلمة وداع .. لماذا .. أحبك أماه .. أحبك .. أحبك ..
أخذت تبكي بصوت عال .. وكأن الذي بقلبها لا تستطيع احتماله .. وتريد لبكائها أن يحمل جزءاً مما يضايقها ..
من بين دموعها رأت بناتها يدخلن الصالة .. والكتب المدرسية بأيديهن .. والفزع قد لوّن نظراتهن لمرآها .. وإذا بزوجها يأخذ بناته بين ذراعيه ويخرجهن .. ولم تمض لحظات .. حتى عدن والدموع بأعينهن .. وأخذن يقبلن رأسها .. ويبكين ..
.. لم تكن تستطيع الاستجابة لشيء .. عزائها الوحيد .. كان بكاؤها .. حتى كلمة واحدة .. لم تصدر عنها .. فبناتها يبكين جدتهن .. التي لم يرياهن .. سوى في .. الصور ..
|
| |