المقاطعة والصناعة
إننا – نحن المسلمين – نعيش في العصور الأخيرة، وبخاصة في هذا العصر عيشة تخالف ما أراد الله لنا شرعا، بسبب مخالفتنا لإرادته الشرعية التي وضحها فيما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم الذي بلغنا بذلك في رسالته البلاغ المبين الذي لم تبق لنا على الله وعلى رسوله حجة، بين لنا ذلك في أصول الإيمان وفروعه، وفي أصول الإسلام وفروعه.
ومن ذلك وجوب قيامنا أو قيام طائفة منا بفروض الكفاية، بحيث، تأثم الأمة كلها إذا فقد أي فرض من تلك الفروض الكفائية، التي تشمل كل ما يحتاج إليه المسلمون في حياتهم المستقرة المستقلة استقلالا يغنيهم عن هيمنة أعدائهم عليهم، من زراعة وصناعة وحياكة وخبازة وتجارة وبناية ونقد وتعليم وإعلام وصرافة وغيرها.
ومعلوم أن فرض الكفاية – كما يعرف من تسميته – لا يقصد منه تكليف كل فرد من أفراد المسلمين القيام به، لأن المقصود وجود الفرض وجودا يكفي المسلمين كفاية تسد حاجتهم وتحميهم من مشقة فقده وترفع عنهم الحرج والإثم، فإذا ما قام به فرد منهم أو جماعة قياما كافيا نال أجره من قام به وسلم غيره من الإثم، فإن لم يقم به أحد قياما كافيا أثمت الأمة كلها، ولا يرتفع عنها الإثم حتى توجِد من يقوم به، ويكون فرض واجبا – كما ذكر العلماء - على فريقين:
الفريق الأول: القادرون على إيجاد من يقوم بهذا الفرض، سواء كانت قدرتهم متعلقة بتكليف من يقوم به وتسهيل أمره في ذلك كالحكام، أو متعلقة بإعانته على القيام به بمال أو غيره من الوسائل، كالحكام وذوي اليسار من الأمة.
الفريق الثاني: من عندهم الكفاءة التي تمكنهم من القيام بهذا الفرض كعلماء الشريعة الذين يقومون بما يحتاج إليه الناس من دين الله في أي مجال من المجالات، كالأئمة والمفتين والقضاة والمعلمين، وكعلماء الزراعة والمزارعين الذي يكفون الأمة في الحرث والزراعة والحصاد والتخزين، وكعلماء الفروسية وذوي التخصصات الجهادية في كل مجال من مجالاتها، من التصنيع إلى الصيانة والإمداد ونحوهما.
قال إمام الحرمين عبد الملك الجويني رحمه الله: "ثم الذي أراه أن القيام بما هو من فروض الكفايات، أحرى بإحراز الدرجات، وأعلى من فنون القربات، من فرائض الأعيان، فان ما تعين على المتعبد المكلف لو تركه ولم يقابل أمر الشارع فيه بارتسام، اختص المأثم به، ولو أقامه فهو المثاب.
ولو فرض تعطيل فرض من فروض الكفايات، لعم المأثم على الكافة على اختلاف الرتب والدرجات، والقائم به كافٍ نفسَه وكافةَ المخاطبين الحرجَ والعقابَ، وآمِلٌ أفضلَ الثواب، ولا يهون قدرُ من يَحُلُّ محلَّ المسلمين أجمعين في القيام بمهم من مهمات الدين" [[الغياثي، فقرة رقم (509) الطبعة الثانية 1401ﻫ، تحقيق الدكتور عبد العظيم الديب]
وفي القرآن الكريم إشارات إلى ما أنعم الله به على عباده مما يحتاجونه في حياتهم، وأذكر على سبل المثال بعض تلك الإشارات:
و في أنبياء الله لنا قدوة
ألا ترى أن الله سبحانه أمر نبيه نوحاً عليه السلام أن يصنع لنفسه ولأتباعه ممن آمن به سفينة تكون سبباً مادياً في نجاتهم من الغرق ؟، مع أن الله تعالى كان قادراً على أن ينجيه وقومه بدونها، وما قيمة سفينة أمام قدرة الله؟ لولا أن الله تعالى أراد أن يعمل عبده ورسوله نوح عليه السلام السبب الذي هو مقصود له من عباده، وإن كانت الأسباب ومسبباتها لا تحصل إلا بقدرته..
((قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29)). [المؤمنون: 26ـ29].
تأمل قوله تعالى: ((فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) حيث أمر الله نوحا ومن اتبعه أن يحمدوا الله على تنجيتة هو لهم وليست السفينة لذاتها، فالله يأمر بالسبب ويعين من أطاعه على فعله، ويرتب عليه وجود المسبب بمشيئته تعالى.
ولهذا عندما شرع الله لعباه الإقرار بعبادته وحده التي هي سبب في رضاه عنهم وفي إدخالهم دار نعيمه، أرشدهم إلى الاستعانة به، كما قال تعالى في سورة الفاتحة آية (5) التي يرددها المسلمون آلاف المرات في حياتهم: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))
وعلَّم الله سبحانه نبيه داود صناعة الألبسة والدروع، التي تتقى بها أسلحة الأعداء وامتن على عباده بذلك لما فيه من حماية أنفسهم به وحثهم على شكره إذ علمهم ذلك عن طريق أحد أنبيائه ورسله، وهو داود عليه السلام، قال تعالى: ((وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم، فهل أنتم شاكرون)). [الأنبياء:80].
قال القرطبي رحمه الله: "هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء، فالسبب سنة الله في خلقه، فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة ونسب مَن ذكرنا إلى الضعف وعدم المنة، وقد أخبر الله عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضاً يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثاً ونوح نجاراً ولقمان خياطاً)). [الجامع لأحكام القرآن (11/321)].
وإذا كان الله سبحانه قد أمر بعض أنبيائه باتخاذ الأسباب التي هم في حاجة إليها في حياتهم، وأمد بعض أنبيائه بأسباب مادية بلا صنع منهم، كما جعل الريح والحيوان والجن طوع أمر سليمان عليه السلام – مثلاً - فإن الأمة التي تحتاج إلى ما تقوم به حياتها وهي قادرة على إيجاده، يجب عليها ان تتخذ الأسباب التي تحقق لها تحتاج إليه ولا يجوز لها القعود عن اتخاذ تلك الأسباب، وبخاصة الأسباب التي يكون في فقدها ضعفها الذي يُطمِع فيها عدوها بالعدوان عليها.
ولقد هيأ الله تعالى للأمم في كل زمان وبخاصة في هذا العصر ما أدهش العقول، من الأسباب المادية التي يكتسب بها الرزقَ و القوة مَن تعاطاها في مأكله ومشربه ومسكنه وتجارته وصناعته التي تغنيه عن الخضوع لعدوه في سلمه وحربه، وهذه الأسباب مسخرة لكل عامل، مسلما كان أم كافرا.
وطبيعي أن يسعى كل فرد أو أسرة أو جماعة أو دولة إلى إيجاد ما يحتاجون إليه باتخاذ الأسباب الموصلة إليه، فإذا توانوا عن اتخاذ تلك الأسباب وقعدوا عنها، فقد انحطوا عن درجة الإنسانية إلى أقل من درجات الحيوانات التي هداها الله بفطرتها وغريزتها التي هيأها بها إلى اتخاذ الأسباب الجالبة لما يطعمها ويسقيها كما هو مشاهد من سائرها، سواء كانت من ذوات الأجنحة أو ذوات الأربع أو الزاحفة على بطونها أو السابحة في بحارها أو غيرها.
ففي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا) [سنن الترمذي (4/573) وقال: "هذا حديث حسن صحيح" و الحاكم في المستدرك على الصحيحين (4/354) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"] فالطير لا تشبع بطونها إلا يغدوها ورواحها، لا ببقائها في أعشاشها وأماكن نومها وراحتها.
وقد امتن الله تعالى في كتابه على العقلاء من خلقه بما سخره لهم في سماواته وأرضه مما لو تعاطوا الأسباب المؤدية إلى الاستفادة منه وبخاصة المسلمين منهم، لفازوا فوزا يكتسبون به عزتهم وقوة ريحهم، فلا يذلهم مَن اتخذ الأسباب التي تطوع له ذلك التسخير من أعدائهم وتجعله يذل بها المسلمين الذين هم أجدر بتعاطي ما يمكنهم من السيادة في الأرض، وفي آيات القرآن الكريم الكثيرة ما يحض كل ذي عقل إلى استغلال ذلك التسخير الإلهي العظيم:
مثل قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ...) [الحج(65)]
وأرشد تعالى المؤمنين خاصة إلى الجمع بين اتخاذ أسباب الرزق و اتخاذ أسباب رضاه بأداء عبادته ورتب على فعلهم كلا الأمرين فلاحَهم، كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [الجمعة (10)]
وأمرهم تعالى أمر إيجاب ببذل جهدهم المستطاع باتخاذ أسباب القوة التي تقيهم عدوان غيرهم من كفار الأرض، بحيث تجعل تلك القوة عدوهم الظاهر لهم والخفي عليهم يَرْهَبُهم ويجبن عن عدوانه عليهم، كما قال تعالى: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)) [الأنفال (60)]
ولهذا وجدنا أعداء الإسلام يحاربون المسلمين حربا شعواء، إذا أدركوا أنهم يعدون تلك العدة المرهبة لهم، ليحولوا بينهم وبين امتلاكها، وليكون أولئك الأعداء هم الذين يرهبون المسلمين، بدلا من إرهاب المسلمين لهم الذي أمرهم به في كتابه.
http://www.al-rawdah.net/r.php?sub0=...adath&p=32&key
وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته التي يعين بعضها بعضا على إعداد العدة والإمداد بها واستعمالها في رفع راية الإسلام، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (انتضلوا واركبوا، وإن تنتضلوا أحب إلي، إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه يحتسب فيه الخير، والمتنبل والرامي به) [الحاكم في المستدرك على الصحيحين 2/104دار الكتب العلمية بيروت]
[والانتضال: الرمي بالسلاح]
وفي حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد به، وقال ارموا واركبوا ولَأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا..)
ولقد أثبت الواقع في جميع العصور أهمية الرمي الذي هو أحب إلى الرسول صلى من الركوب وما نشاهده في هذا العصر من خطر الرمي يؤكد ذلك تمام التأكيد)
و عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. [سنن الترمذي دار إحياء التراث العربي بيروت (4/174) وقال: أبو عيسى: وفي الباب عن كعب بن مرة وعمرو بن عبسة وعبد الله بن عمرو وهذا حديث حسن صحيح]
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن في المسلمين كلهم خيرا ولكنه خص بالثناء القوي منهم، كما في حديث أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز...) [صحيح مسلم دار إحياء التراث العربي بيروت (4/2052)]
إهمال الأمة غالب فروض الكفاية.
من جد وجد ومن عـزَّ بـزَّ.
وها هم أعداء الله الكفار قد استغلوا كل ما بلغته طاقتهم، ووصل إليه جهدهم من أسباب الرقي المادي، ولا زالوا في نشاط متواصل لاستغلال ما سخره الله للبشر.
وفضل الله الدنيوي مفتوح لكل مُجِدِ ٍّفي تحصيله لا فرق بين مسلم وكافر، ولما لم يقم المسلمون بذلك بجد صاروا من سقط المتاع، وذيلاً للأعداء مع قدرتهم التي عطلوها عمدا، ولو استغلوها لكانوا على غير هذا الوضع المزري.
قال سيد قطب رحمه الله: "ويحسن أن تعرف حدود التكليف بإعداد القوة فالنص يقول: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)) فهي حدود الطاقة إلى أقصاها، بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها، كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة: ((ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم)) فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله، الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض، الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ومَن وراءهم ممن لا يعرفونهم، والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة، ليكونوا مرهوبين في الأرض، ولتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله.
ولما كان إعداد القوة يقتضي أموالاً، وكان النظام الإسلامي يقوم على التكافل، فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله: ((وما تنفقوا من شيء يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)). [في ظلال القرآن الكريم (10/1544)].
وقيام المسلمين بإنشاء مصانع جهادية وغيرها مما يسد حاجتهم ويقوي شوكتهم، هو فرض عليهم، ما كانوا قادرين على ذلك، لأنهم به يستغنون عن عدوهم، ويحفظون أسرارهم وأموالهم والخيرات التي أنعم الله بها عليهم في بلدانهم، ويطورون صناعاتهم على حسب الحاجة والمصلحة، ويأمنون من خيانة عدوهم الذي يشترون السلاح منه، لأنه غالباً لا يبيعهم إلا السلاح الذي لا يصلح لدفع عدوانه عنهم، إذ يصنع لنفسه أسلحة متفوقة في الهجوم والدفاع، ويحظر على المسلمين الاطلاع على أعيانها وأسرار صناعتها، مع أنه - أي العدو - يعلم خفايا أسلحة المسلمين التي بأيديهم، لأنه هو الذي صنعها لهم، فيكون بذلك قادراً على حرب المفاجأة، والمسلمون غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم بالأسلحة التي بين أيديهم، إضافة إلى احتكار عدوهم قطع الغيار التي يستطيع حظرها على المسلمين وقت ما يشاء، فيبقى سلاحهم شبيها بقمامات مكدسة، لا يستفيدون منها شيئا عند الحاجة.
وليس معنى هذا أن المسلمين لا يجوز لهم أن يشتروا نتاج مصانع السلاح وغيره من أعداء الله الكافرين، قبل أن يستغنوا بمصانعهم التي يقيمونها هم، بل يجب أن يشتروا منهم الأسلحة وغيرها، عندما لا يكونون قادرين على صنعها بأنفسهم، أو لا يجدونها عند بعضهم من المسلمين و لا غناء لهم عنها، ولكن يجب عليهم – أيضاً - أن يسعوا لإنشاء المصانع المستطاعة التي تحقق لهم ما أمرهم الله به من قوة.
وعندئذ يكونون ممتثلين أمر الله سبحانه في الإعداد، وعليهم أن يجتهدوا في اختيار الدول التي يشترون منها السلاح، وأن يتثبتوا لأنفسهم من جودته، وأن يكون سعره مناسباً قدر الاستطاعة.
فقد يكون العدو الكافر الذي يبيع المسلمين أسلحته، ليس بينه وبين المسلمين حرب مباشرة، بل تكون الحرب بينهم وبين كافر آخر، ولكن هذا العدو المحارب يستمد مؤنه وذخائره من العدو الكافر الآخر الذي يبيع السلاح وغيره للمسلمين، فعلى المسلمين أن يجتهدوا في أن يكون السلاح الذي يشترونه منه، مثل السلاح الذي يبيعه لعدوهم المحارب، إذا لم يكن أقوى منه، وأن يستعملوا في سبيل الحصول على ذلك كل الوسائل المادية، التي تجبر البائع على الاستجابة لطلبهم، فإنه قد يكون في حاجة إلى شراء بعض المواد من المسلمين، وعليهم أن يستغلوا حاجته كما يستغل هو حاجتهم.
إن أعداء الإسلام حاقدون على هذا الدين وأهله حقدا متأصلا في نفوسهم، وهم يتمنون إن يزيلوا من الأرض دين الله الحق الذي لم يعد في أرض الله دين حق سواه وهو الإسلام
فهم لا يُخفُون حقدهم على المسلمين وعلى كل شعيرة من شعائرهم ، وبخاصة ما يربط بينهم رباطا قويا ويجمع كلمتهم ووجهتم لله رب العالمين، كالمساجد والقرآن، وقد قال بعضهم: "متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة، التي لم يبعده عنها إلا مُحمد وكتابه".
وليس المقصود بمكة مبانيها، وإنما المقصود الكعبة التي يستقبلها المسلمون بصلاتهم في كل لحظة من لحظاتهم في كل أنحاء الأرض فرضاً أو نفلاً، والتي تهفو إليها قلوبهم من كل مكان، للصلاة في صحنها والطواف بها، وأداء مناسك الحج والعمرة فيها وحولها، وهي من أعظم العوامل الموحدة للمسلمين، وقد جمع هذا العدو ثلاثة أمور:
الأمر الأول: القرآن، وهو منهج المسلمين الذي ينظم لهم حياتهم ويهديهم للتي هي أقوم.
الأمر الثاني: المسجد الذي تمثله الكعبة المشرفة، وهو يعنى إبعاد المسلمين عن الإسلام بتركه كليا، حتى لا تكون لهم قبلة، ولا يتجهون إلى الله بعبادة.
الأمر الثالث: الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أن لا يكون للمسلمين إمام متبوع واحد يجمع كلمتهم بتوجيهه، ولهذا حاولوا ولا يزالون يحاولون النيل من جنابه صلى الله عليه وسلم في وسائل إعلامهم ومراكز بحثهم ومناهج مدارسهم وجامعاتهم وكتبهم، كما حاولوا ألا تجتمع كلمتهم على قائد مسلم واحد، ولا تتراص صفوفهم على منهج الله.
وهذه هي الأصول الثلاثة التي لا دين للمسلمين إذا ذهب أحدها، وهى: المنهج الذي هو القرآن، والإسلام الذي رمز له بمكة، والرسول الذي هو الواسطة الوحيد بين المسلمين وربهم.
ويعلل هذا العدو تمنيه هدم دين الله بأنه يريد أن يتدرج المسلمون في سبيل الحضارة الغربية.
والمقصود بالحضارة اتباع عقائد الغرب ومذاهبهم الفكرية، والاجتماعية والأخلاقية، والتسليم المطلق للتوجيه الغربي اليهودي النصراني، وليس المقصود استفادة المسلمين من التقدم المادي الصناعي والإداري، بل ولا السياسي، فإنهم لا يريدون أن يتقدم المسلمون في المجال الصناعي، لأن تقدمهم في نظرهم، يعنى القضاء على الحضارة الغربية بمفهومها الشامل- أي العقائد والأفكار- كما قال بعض مفكريهم ناصحاً لهم من عودة القوة الإسلامية: "وسيعيد التأريخ نفسه، مبتدئاً من الشرق عوداً على بدء، من المنطقة التي قامت فيها القوة العالمية الإسلامية في الصدر الأول للإسلام، وستظهر هذه القوة التي تكمن في تماسك الإسلام ووحدته العسكرية، وستثبت هذه القوة وجودها إذا ما أدرك المسلمون كيفية استخراجها والاستفادة منها، وستقلب موازين القوى، لأنها قائمة على أسس لا تتوافر في غيرها من تيارات القوى العالمية" إلى أن قال: "إن انتفاضة العالم الإسلامي صوت نذير لأوروبا، وهتاف يجوب آفاقها، يدعو إلى التجمع والتساند الأوروبي، لمواجهة هذا العملاق الذي بدأ يصحو وينفض النوم عن عينيه، هل يسمع أحد؟ ألا من مجيب؟) [الإسلام قوة الغد العالمية ص322ـ324].
ويقول آخر محذراً من تقدم المسلمين الصناعي وخطره على أوروبا كما يزعم: "وفرصتهم [يعني المسلمين] في تحقيق أحلامهم، هي في اكتساب التقدم الصناعي الذي أحرزه الغرب، فإذا أصبح لهم علمهم، وإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع، انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الغني، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الروح الغربية، ويقذفون رسالتها إلى متاحف التاريخ" [تأمل قوله: "قواعد الروح الغربية ويقذفون رسالتها في متاحف التاريخ" هذه هي الحضارة التي يخشون عليها من قوة المسلمين، وليست الحضارة المادية من مصانع وغيرها، لأنهم قد عرفوا أن المسلمين إذا فتحوا البلدان بالدعوة أو الجهاد، لا يألون جهدا في الاستفادة من حضارات الأمم الأخرى سواء كانت تنظيمية إدارية أو صناعية ما دامت لا تخالف الإسلام ولا تجافيه، وهذا ما عملوه عندما فتحوا بلاد فارس وبلاد الروم]
ثم اقترح على بني قومه ما يحول بين المسلمين والتقدم الصناعي، فقال: "فلنعط هذا العالمَ ما يشاء، ولنقو في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني، فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة، وتحرر العملاق من قيود جهله، وعقدة الشعور بعجزه عن مجاراة الغرب في الإنتاج، فقد بؤنا بالإخفاق الذريع، وأصبح خطر العالم العربي، وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة، خطراً داهماً يتعرض به التراث الحضاري الغربي لكارثة تاريخية، ينتهي بها الغرب وتنتهي معه وظيفته القيادية" [جند الله ثقافة وأخلاقاً، للشيخ سعيد حوا رحمه الله ص20ـ21].
وإذا كان التقدم الصناعي للمسلمين وما وراءه من الطاقات الإسلامية، يهدد أهل الغرب ويخيفهم، وأنه لابد من إغراق العالم الإسلامي بما يحتاج إليه من الإنتاج الصناعي من الغرب، حتى لا يفكر في الصناعة، فأيُّ سبيلِ حضارةٍ يريدونه أن يتدرج فيها من الحضارة الأوروبية؟
أتراهم يرغبون أن ينهج منهجهم في النظم الإدارية والسياسية التي يدعون أنهم يطبقونها ويمدحونها، كالديمقراطية مثلا؟ إنهم لا يريدون للعالم الإسلامي ذلك، لأن الديموقراطية تعطي الشعوب حرية اختيار النظام، والشعوب الإسلامية لا ترضى عن الإسلام بديلاً. [راجع نفس الكتاب السابق ص28ـ29 وهاهم يدعون الدول العربية وغيرها من حكومات الشعوب الإسلامية إلى الديمقراطية، فإذا طبقت في بعض الشعوب، كان الفوز فيها للمسلمين وليس للمنافقين الموالين لهم حاربوا لديمقراطية وحكامها الذين اختارتهم الشعوب، وأقرب مثال لذلك فوز حركة حماس في الأرض المباركة "فلسطين"]
وإذا كانوا لا يريدون لنا التقدم الصناعي، ولا التقدم السياسي، فما الحضارة التي حرصوا على أن نتدرج فيها؟ إنها تقليدهم في عقائدهم الكافرة، ونظامهم الاجتماعي، وترك المسجد والقرآن وتوجيهات رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.