المناهج السعودية.. والمارون بين الكلمات العابرة!
د. أحمد بن راشد بن سعيّد
تابعت برنامج الحدث في قناة إل. بي. سي يوم الأحد الثالت والعشرين من شهر نيسان (أبريل) الجاري, والذي ناقش المناهج الدراسية في السعودية, وخرجت بالانطباعات التالية.
كان يحي الأمير وحسن المالكي متحاملين على المناهج الشرعية بالذات دون غيرها من المناهج, وصبا جام غضبهما على ما يعتبرانه (سلفية) متخلفة متقوقعة تسرف في تصنيف الناس وفقا لخطوط التكفير والتبديع. أجمع الاثنان تقريبا على أن المقررات الشرعية في السعودية تفرق ولا تجمع, وأنه يجب (تمييعها) وإفراغها من مضمونها, سيما أن الزمن تجاوزها في عصر حرب الأفكار التي يشنها بوش ورامسفيلد والآنسة كوندي.
عجبت لتهافت طرح الرجلين, وقصر باعهما في النقاش العلمي, واجتزائهما نصوصا من كتب التوحيد والحديث للتغول على كل المنطلقات الشرعية التي بنيت عليها مناهج التعليم الديني في المملكة. كان بإمكاني أن أفتح ذهني جيدا للاستماع إليهما لو كانا موضوعيين في طرحهما. وكان أشد ما هالني استشهاد الأمير بالشهري الذي فجر نفسه, وعزا ذلك إلى المناهج التعليمية. هل غاب عن هذا (الأمير) حركات العنف الأعمى والجريمة المنظمة في بقاع كثيرة من العالم, سيما الدول الغربية, التي تمارس القتل وهي حركات غير مسلمة في الأصل, ولم تتلق جرعات تعليمية في التوحيد والحديث على يد الشيخ صالح الفوزان أو محمد قطب أو مناع القطان؟
كيف ولدت ونشأت وترعرعت إسرائيل؟ ألم تقم الصهيونية دولتها على أنقاض المجتمع الفلسطيني عبر إرهاب دموي ومنظم ومدروس؟ وماذا فعل الصرب في المسلمين البشناق على مدى أربع سنوات؟ أكثر من ثلاثمائة ألف مسلم أبيدوا أمام سمع العالم (المتحضر) وبصره, وأكثر من ستين ألف امرأة وفتاة وطفلة تم اغتصابهن في أفظع مذبحة ختم بها الغربيون المتعصبون القرن العشرين المنصرم. وماذا عن منظمة الألوية الحمراء في إيطاليا, والجيش الجمهوري الإيرلندي في إيرلندا الشمالية, ومنظمة الباسك في إسبانيا, والنازيين الجدد في ألمانيا, وجماعة (الحقيقة المطلقة) في اليابان؟ وماذا عن الميليشيات البيض العنصرية(ku klux klan) في الولايات المتحدة الأميركية (تولى فريق منها كبر تفجيرات أكلاهوما), الدولة التي تعلمنا التسامح والتعايش والسلام وحقوق الإنسان.. فيما زعموا! هل تخرج هؤلاء في المعاهد العلمية السعودية, وهل حصلوا على شهاداتهم وإجازاتهم من كلية أصول الدين في جامعة الإمام, أو تأثروا بعقيدة الولاء والبراء التي تصدع رأس الأمير, وتصيب المالكي بالدوار؟
حسنا.. ماذا عن الزرقاوي أو أحمد الخلايلة الأردني؟ أين درس؟ ومن أين استقى تعليمه؟ من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة مثلا؟ وهذه المرأة العراقية, ساجدة الريشاوي, والمتهمة بمحاولة تفجير نفسها في أحد فنادق عمان.. هل تعلمت هي الأخرى في مدرسة بنات في إحدى قرى نجد السلفية المتشددة؟
هذه المناهج التي تتعرض الآن للهجوم بوصفها تغرس في أمخاخ النشء الكراهية, وتعلمهم التعصب والنفور من (الآخر) المتسامح جدا خرجت أجيالا من الرجال والنساء يديرون هذا الكيان السعودي الكبير الذي نعتز بالانتماء إليه. لقد تتلمذ الوزراء وأساتذة الجامعات وأعضاء مجلس الشورى على مقررات التوحيد والفقه والحديث والتفسير والتجويد وغيرها من المقررات الدينية في مدارسنا, وقد جعلتهم دراستهم هذه أكثر حبا لدينهم وقربا من وطنهم. وكذلك فعل رجال الأمن الذين يطاردون جماعات العنف الأعمى بولاء للوطن عميق. المالكي يطلب أن نستورد المناهج الدينية من دول الخليج, زاعما أن الخليجيين القريبين منا كفونا مؤونة ذلك. هكذا, فنحن لا نستطيع أن نعلم أبناءنا الدين. أين الوطنية من هذا الهراء؟
لقد درست أنا وأبناء جيلي المناهج الدينية في مدارس التعليم العام قبل أحداث أيلول (سبتمبر) الشهيرة بزمن طويل, فلم نتخرج إرهابيين ولا متطرفين ولا مجانين ولا أسرى للعنف. أعرف الكثيرين من أبناء جيلي الذين يذكرون المقررات الشرعية وأساتذتها بكل خير, وينقمون على ظواهر العنف والتفجير, ويشعرون أن تجربتهم التعليمية تعرضت للتشويه والإساءة. لقد تعلمنا في هذه المناهج قول الله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم", وتعلمنا قوله تعالى: "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين", وتعلمنا: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا, اعدلوا هو أقرب للتقوى". لكننا أيضا تعلمنا أيضا قوله تعالى: "إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء, وودوا لو تكفرون", وقوله تعالى: "إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا".
لماذا لا يقول الأمير والمالكي الحقيقة, وهي أن هناك غلا في بعض القلوب على سمة الصفاء الديني الغالبة على المقررات الشرعية السعودية, وكثيرا من الغل على ظاهرة التدين التي تنتظم المجتمع بشكل عام؟ لماذا لا يقولان إنهما ومن معهما قد ضاقوا ذرعا بارتباط الكيان السعودي بالدين؟ لماذا لا يطالبان ومن يرى رأيهما الدولة بإلغاء مادة من مواد النظام الأساسي للحكم تنص على أن الدولة تحمي الإسلام وتدافع عنه وتنشر الدعوة إلى الله ؟ لماذا لايعلنانها صراحة كما أعلنها تركي الحمد من قبل أن (الوهابية) تؤسس للإرهاب؟ بل لماذا لا يقدمان ومن حالفهما من (المثقفين) الليبراليين مشروعا إلى الأمم المتحدة يطالبون فيه باعتبار (الوهابية) حركة مرادفة للعنصرية, سيما أن المكان أصبح شاغرا بعد تبرئة الصهيونية من هذه التهمة؟
نعم المقررات التعليمية كلها بحاجة إلى تطوير ومتابعة وإصلاح ديناميكي متجدد وفقا لمقتضيات كل مرحلة. ولكن استغلال بعض الظواهر الاجتماعية السلبية والدامية والمؤسفة للقفز على ثوابت المجتمع وتجريمها ورميها بالمسؤولية عن هذه الظواهر, أمر لا يمكن تفسيره إلا في إطار الحملة على هذه الثوابت والرغبة في تشويهها وإقصائها, لا سيما أن الحملة على المناهج الدينية هي مجرد حلقة من حلقات الهجمة الشرسة على كل ما يمت لثقافة المجتمع وقيمه بصلة, بدءا من حلقات تحفيظ القرآن والمراكز الصيفية, ومرورا بخطب الجمعة, وانتهاء بتبرعات المحسنين للجمعيات الخيرية.
كان برنامج الحدث في إل. بي . سي فرصة أيضا للتعرف عن قرب على الدكتور ناصر الحنيني أستاذ العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الذي كان خير أنموذج لما أفرزته مناهج التعليم في المملكة العربية السعودية, أو (مأرز) الإسلام, كما ردد هو في اللقاء أكثر من مرة.
د. أحمد بن راشد بن سعيّد
writemee@hotmail.com