05-08-2007, 01:58 AM
|
المشاركة رقم: 1 |
المعلومات | الكاتب: | | اللقب: | زائر | البيانات | العضوية: | | المشاركات: | n/a [+] | بمعدل : | 0 يوميا | اخر زياره : | [+] | الإتصالات | الحالة: | | وسائل الإتصال: | | | المنتدى :
الإسلامي العام السيرة الذاتيه للأمام بى حنيفه النعمان سيرة الصحابة: الأئمة الأربعة : الدرس 1/6 لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
الموضوع : الإمام أبو حنيفة النعمان .
تفريغ : م. م . عرفان النابلسي
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، أربعة دروس إن شاء الله من نوع جديد ، نحن طوال حياتنا نسمع بأبي حنيفة النعمان ، وبالإمام الشافعي ، والإمام أحمد بن حنبل ، والإمام مالك ، هؤلاء الأئمة الذين اجتهدوا ، واستنبطوا الأحكام الفقهية الفرعية من الآيات والأحاديث الشريفة ، هؤلاء يجب أن نقف قليلاً عند مناقبهم ، لا أقول عند سيرتهم ، بل عند مناقبهم ، ففي درس من الدروس سيكون الحديث عن أبي حنيفة النعمان ، وفي درس آخر عن الإمام الشافعي ، وفي ثالث عن الإمام أحمد ، وفي رابع عن الإمام مالك .
أيها الإخوة ، نبدأ بالإمام أبي حنيفة النعمان ، شيء أساسيٌ من خلال هذه المناقب يتضح لكم أن هؤلاء الأئمة العظام ، الذين فتح الله عليهم ، ووضعوا أيديهم على دقائق الشريعة ، وأحكامها التفصيلية ، إذا نظرت إلى ورعهم ، وإلى استقامتهم ، وإلى التزامهم بأحكام الشرع وجدتَهم قمماً في هذا الموضوع ، فالإمام أبو حنيفة النعمان قيل عنه : "من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عالة على أبي حنيفة" .
يعني أنّ أبا حنيفة يقع في قمة الفقهاء ، ليس غريباً أن نرى أن مذهبه انتشر في الأمصار حتى طبّق الآفاق ، والشيء الذي لا يصدق أن تلامذته هم الذين دونوا فقهه ، وهذا يعني أنّ الإنسان حينما يصدق مع الله ربما لا يتسع وقته للكتابة ، لكن تلامذته الكبار هم الذين كتبوا ، وقنَّنوا ، وألَّفوا ، ودرسوا ، وحفظوا مذهبه .
أحد العلماء يقول : "رأيت أعبد الناس ، ورأيت أورع الناس ، ورأيت أعلم الناس ، ورأيت أفقه الناس" ، ماذا نستنبط ؟ أورع الناس ، أعبد الناس ، أعلم الناس ، أفقه الناس ، الدين واسع جداً ، ومهما كان الإنسان عبقرياً فإنّه يأخذ منه بطرف ، وأن يحيط الإنسان بالدين كله فهذا شيء شبه مستحيل ، إلا أن كل إنسان يتفوق في جانب وُيلِمُّ بجانب آخر ، يُلِمُّ بجانب ، ويتفوق بجانب ، ولعل أب حنيفة جمع في نفسه كل هذه الجوانب .
هناك مثل لطيف يقول : "تعلم كل شيء عن شيء ، وشيئاً عن كل شيء" ، فما من مسلم متبحر في الدين إلا له جانب يظهر فيه تبحره ، إنسان تراه قمةً في التفسير ، إنسان آخر تراه قمةً في علم الحديث ، إنسان ثالث تراه قمةً في متن الحديث ، إنسان متبحر في السيرة ، إنسان متبحر في علم العقيدة ، إنسان متبحر في الفكر المعادي للفكر الإسلامي ، يرد على كل الشبهات ، إنسان متبحر في اللغة العربية التي هي وعاء هذا الدين ، لذلك قالوا : العلماء ينبغي أن يكونوا متكاملين لا متنافسين .
أجمل معنى أن كل عالم تفوق في جانب ، وأَلَمَّ بجانب ، والإلمام غير التفوق ، العالم الثاني تفوق في الجانب الذي ألمَّ به الأول ، وكان في جانبه الأول ملماً ، فلو جمعنا كل العلماء لوجدناهم متكاملين ، لذلك قالوا : "النبي عليه الصلاة والسلام معصوم بمفرده ، بينما أمته معصومة بمجموعها" ، والحقيقة أن كل إنسان إذا تفوق في شيء فلابد مِن حدٍّ أدنى في بقية الأشياء ، إنسان مثلاً تفوق في علم الحديث فلابد من حدٍّ أدنى في علم الفقه ، ولابد من حد أدنى من علم التفسير ، ولابد من حد أدنى من علم السيرة ، هناك حد أدنى وحدٌّ أعلى ، تفوَّقَ في جانب وألمَّ ببقية الجوانب ، هذا أكمل ما يسمى بالثقافة الموسوعية ، والثقافة الاختصاصية.
أحد العلماء يقول : أحد العلماء يقول : "رأيت أعبد الناس ، ورأيت أورع الناس ، ورأيت أعلم الناس ، ورأيت أفقه الناس" ، ماذا نستنبط ؟ فأما أعبد الناس فعبد العزيز بن أبي رواد ، وأما أورع الناس فالفضيل بن عياض ، وأما أعلم الناس فسفيان الثوري ، وأما أفقه الناس فأبو حنيفة .
أنا أتمنى على طلاب العلم الشباب أنْ يختار فرعًا ويتبحّر فيه ، أنت طالب علم ، تحضر مجالس علم ، ألم يستهوك نوع من أنواع المعرفة الإسلامية ، فاخترْ نوعاً ، وتبحَّرْ فيه ، ثم اقرأ عن كل شيء ، فإذا اخترت نوعاً ، وتبحرت فيه ، ثم ألممت بكل شيء جمعت بين الثقافة الموسوعية ، والثقافة الاختصاصية ، إذ ستصبح مرجعا في اختصاصك ، والحقيقة أنّ قيمة العلم لا تعدلها قيمة ، ورتبة العلم أعلى الرتب ، أكبر شخص بالحياة لا ينجح إلا إذا استعان بالخبراء ، فمَن هم الخبراء ؟ هم العلماء ، ترى القرار لا يتخذ إلا بعد أن توضع أمامه خيارات ، هذا الخيار ، وهذه مضاعفاته ، وهذه نتائجه ، لذلك قال بعضهم : اللهم ارزقني حظاً تخدمني به أصحاب العقول ، ولا ترزقني عقلاً أخدم به أصحاب الحظوظ .
أبو حنيفة النعمان على طول باعه في العلم ، ودقة استنباطه ، وجولانه الرائع في الأحكام الفقهية ، وكما هو في أعلى مستوى في الاستنباط ، كان في أعلى مستوى في الورع ، هذا الذي أردت أن أذكره لكم ، أنّ الإنسان عندما يكون ورعاً ينوِّر الله عز وجل بصيرته ، ويلهمه الصواب ، ويفتح الآفاق أمامه ، بالتعبير الحديث تفجر طاقاته .
قال عبد الله بن المبارك : "ما رأيت أحداً أورع من أبي حنيفة" ، وكلكم يعلم أن ركعتين من ورِع خير من ألف ركعة من مخلط ، أما المخلط فهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، العمل الصالح مع السيئ ، الصالح له قيمة عند الله ، لكن الصالح إذا اختلط مع السيئ لا تستطيع من خلاله أن تتصل بالله ، لأن العمل السيئ حجاب ، فمثل هذا الإنسان قيمة ، ولكن قيمة محدودة ، كما لو أن الإنسان اشترى عجلة سيارة ، فهذه ليست السيارة لن تستطيع أن تركبها ، لن تستطيع أن تنطلق بها ، لكن يمكن أن تبيعها ، لها قيمة ، ولكن محدودة ، أما إذا ملكتَ مركبة متكاملة فهذه تركبها وتسير بها ، فالإسلام كمنهج متكامل ينقلك إلى الله ، وتصل به إلى الله ، تتصل بالله ، تسعد بالله ، تقطف ثمار هذا الاتصال ، أما إذا اخترت أشياء من الإسلام أعجبتك ، وهي هينة عليك ، ولا تزعجك ، وفعلتها فقد تقطف ثمارها في الدنيا ، أما أن تنقلك إلى الله فهذا شيء صعب جداً ، الإسلام منهج كامل ، لا أقول لك : إما أن تأخذه كله، أو تدَعَهُ كله ، هذا كلام أنا لا أقوله أبداً ، ولكن ينبغي أن تأخذه كله ، لأنّ الإسلام منهج ينبغي أن تأخذه كله من أجل أن تقطف ثماره ، يعني الدارة يجب أن تستمر .
مثلاً بيت فيه غسالة ، مكيف ، مسجلة ، مروحة ، براد ، مكواة فيه عشرون أو ثلاثون آلة كهربائية ، إذا لم يكن التيار متصلاً ، فكل هذه الآلات لا قيمة لها ، أما حينما يتصل التيار تعمل كل الآلات ، والحقيقة أنّ تألق المسلم لا يكون إلا بطاعة الله ، والإنسان يتألَّم أشدَّ الألم حين يرى مسلمًا محجوبًا عن الله بسبب تافه ، لم ترتكب كبيرةً ولم تقترف جريمةً ، ولم تأكل مالاً حراماً ، ولم تقع في جريمة الزنا ، ولا في جريمة السرقة ، ولا شرب الخمر ، لكن من أجل إطلاق البصر ، وبعض المخالفات الاجتماعية ، وبعض التساهلات في البيع والشراء ، فهذه الذنوب الصغيرة تحجبك عن الله كالكبائر ، فأنت مغبون جداً ، لذلك إن الشيطان يئس أن يعبد في أرضكم ، ولكن رضي مما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم ، يقول لك : ماذا فعلنا؟ هذه لا شيء عليها ، هذه الصغائر التي نصر عليها تنقلب إلى كبائر لذلك قال عبد الله بن المبارك : ما رأيت أحداً أورع من أبي حنيفة .
وقول شداد بن الحكيم : "ما رأيت أحداً أعلم من أبي حنيفة" ، العلم والورع ، وإن بعض الناس قد يكون مع الخط العريض ، مع السواد الأعظم ، مع الدهماء ، مع سوقة الناس ، يحيط به عدد ، يقول لك : سكان القطر ثلاثة عشر مليونًا ، فلتكنْ عَلَمًا بينهم ، أليس هناك أعلام في القطر ؟ لمَ لا تكون مِن هؤلاء الأعلام ؟ هناك أعلام في الدنيا ، وأعلام في الآخرة ، هناك أعلام في الدنيا والآخرة ، فالطموح من خصائص الإنسان ، "ما رأيت أحداً أعلم من أبي حنيفة ، وما رأيت أحدًا أعلم من أبي حنيفة".
وقال مكي بن إبراهيم :" كان أعلم أهل زمانه" ، وهنا نقطة دقيقة ، فالتعليقات مهمة جداً على هذا الموضوع ، ذلك أننا كلنا ضعاف ، كلنا لا نعلم ، كلنا فقراء ، كلنا لا حيلة لنا ، لكنك إذا طلبت شيئاً صادقاً منحك الله إياه ، فالتفاضل فيما بيننا لا في قدرات ذاتية أودعها الله فينا ، لا، لكن التفاضل فيما بيننا في مدى صدقنا في طلبنا ، اطلب أيها الإنسان ! أيعجز أن يطلب مِن الله ؟ أنا أعجب حينما يقول الله عز وجل في الحديث القدسي المروي عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ هَلْ مِنْ تَائِبٍ هَلْ مِنْ سَائِلٍ هَلْ مِنْ دَاعٍ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ"
[البخاري ومسلم وغيرهما ]
رب العزة يقول لك : يا عبدي اسألني حاجتك ، اطلب مني المغفرة ؟ تُبْ لأتوب عليك ، استغفر لأغفر لك ، نحن ضعاف وربنا سبحانه وتعالى كريم ، فيا أيها الأخ الكريم لا تكن من دهماء الناس ، ولا من سوقتهم ، ولا من الخط العريض من المجتمع ، ولا مع الأكثرية الجاهلة ، ولا مع الأكثرية التائهة ، ولا مع الأكثرية الضالة ، كن مع الأقلية الواعية .
قيل لأحدهم : صف لي أبا حنيفة ، فقال : "كان واللهِ شديد الذبِّ عن محارم الله ـ أي الدفاع- يعني أنت حجم إيمانك بحجم غيرتك على دين الله - طويل الصمت ، دائم الفكر ، لم يكن مهداراً ولا ثرثاراً صائناً لدينه ونفسه ، مشتغلاً بما هو فيه عن الناس لا يذكر أحداً إلا بخير" ، فقال أحد الخلفاء : "واللهِ هذه أخلاق الصالحين" .
كان والله شديد الذب عن محارم الله ، طويل الصمت ، والهَذَر يُوصَف به مَن كثر كلامه ، وكثر خطؤه ، لكنّ أبا حنيفة طويل الصمت ، دائم الفكر ، لم يكن مهداراً ، لا يهدر وقته بلا طائل ، تقضي ساعتين أو ثلاثًا لتشاهد أحداث قصة فتتعب أعصابك ، وتحطم نفسك ، وتشتهي، ولا تستطيع ، تنتهي وقد ضعفت قواك ، وضعفت معنوياتك ، هذا هدر للوقت، وانحدار عن الطريق الصحيح ، لم يكن مهداراً ولا ثرثاراً ، صائناً لدينه ونفسه ، مشتغلاً بما هو فيه عن الناس ، فطوبى لمن شغله عيبُه عن عيوب الناس ، لا يذكر أحداً إلا بخير .
النبي صلى الله عليه وسلم علمنا ، والسيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كان مع الحواريين ، فإذا بجيفة في الطريق ، فقالوا : ما أشد نتن ريحها ! فقال : ما أشد بياض أسنانها ، أنت من الممكن أن تكتشف في الإنسان النواحي الإيجابية ، وهذا أعظم شيء في الإنسان ، هناك شخص قناص ، يبحث عن الأخطاء عن المثالب ، وعن العيوب ، وعن نقاط الضعف في الإنسان ، فيكبرها ، ويشهر بها ، ثم يفضحها ، لكنْ هناك إنسان يبحث عن الإيجابيات ، فيقدرها ، وينميها ، ثم يرعاها ، وهذا هو المؤمن ، يقرِّب ولا يبعِّد ، ينمي ، ولا يحطم ، يأخذ بيد الآخرين ، ولا يعيب عليهم ، ولا يبني مجده على أنقاضهم ، ولا يذكر أحداً إلا بخير ، فقال الخليفة هارون الرشيد : هذه والله أخلاق الصالحين .
والشيء الذي لا يصدق بَهَر العقول ، وأخذ بالألباب أن العظماء في التاريخ الإسلامي كانوا أبعد الخلق عن الغيبة ، قال ابن المبارك أيضاً : ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة ، ما سمعته يغتاب عدواً قط ، طبعاً إلا إذا سئل ، وعندنا رخص أساسية ، كزواج ، أو شراكة ، أو إنسان مبتدع، ظلامة ، أمّا سوى ذلك فكان ينزه لسانه عن غيبة أعدائه .
فقال سفيان : "هو واللهِ أعقل من أن يُسَلِطَ على حسناته ما يذهب بها " ، المشكلة أحيانا يطالعك حديث شريف صحيح تقرؤه ، فمِن ضعف الإيمان لا تشعر أن هذا الحديث واقع مائة بالمائة ، أما قال سيدنا سعد بن أبي وقاص :" ثلاث أنا فيهن رجل ، وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس ، من هذه الثلاثة : ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله تعالى" .
النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد بأحاديث كثيرة أن الذي يغتاب الناس يوم القيامة يأخذ الذين اغتابهم من حسناته ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ ، قَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلاةٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار "
[ مسلم ـ الترمذي ـ أحمد ]
لذلك كما قال بعض الصالحين :"لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت أبي وأمي لأنهم أولى بحسناتي" ، وقال أحدهم أيضاً : "أيعقل أن أغتاب أحداً فأمكنه من حسناتي" ، عندي عقل سليم ، يجب أن نعتقد اعتقاداً جازماً أنك إذا اغتبت إنساناً سوف يقف يوم القيامة ليأخذ من حسناتك ، فإذا فنيت هذه الحسنات طرح عليك من سيئاته ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ قَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلاةٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار ".
[ مسلم ـ الترمذي ـ أحمد ]
ديننا استقامة ، ديننا التزام ، ديننا حسن ظن ، قال ما سمعته يغتاب عدواً قط ، وقال : "واللهِ هو أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها " .
أيضاً من خصائص هذا الإمام العظيم أنه يأخذ بما صح عنده من الأحاديث التي يحملها الثقات ، ومِن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ، وهناك أحاديث كثيرة موضوعة ، هذه تفرّق ، وتشتت ، وتضيع ، يجب أن تحرص على صحة الحديث كما تحرص على سلامة دينك ، لأن الدين في الأصل نقل ، وأخطر ما في النقل صحَّتُه ، لو اكتفينا بالصحاح لاجتمعنا بعد التفرق ، لأحب بعضنا بعضاً ، لكن ما من انحراف في السلوك أو في العقيدة إلا أساسه حديث ضعيف أو موضوع ، الأحاديث التي وضعها الوضَّاعون هي التي تفرقنا ، هي التي تضعفنا ، هي التي تشتتُ شملنا ، أما القرآن والسنة كما قلت من قبل ، وأقول الآن هما اللذان يجمعاننا .
فيا أيها الإخوة الكرام ، الإمام أبو حنيفة النعمان كان لا يأخذ إلا بما صح عنده من الأحاديث التي يحملها الثقات ، وأنا أقول ولعله من باب المبالغة ، قال بعضهم : صلى أبو حنيفة فيما حفظ عليه صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنةً ، يعني أنه ما نام أبداً ! فهذا خبرٌ يطرح تساؤلاً ، لأن الإنسان له طاقة ، وله خصائص ، ولقد سمعت قولاً لسيدنا عمر ، أو قصة له أحجمتُ عن ذكرها مدة طويلة ، ما توازنت مع العقل ، خلاصتها : أنه لما جاءه من أذربيجان رسول عاملِه عليها ، ودخل المسجد ليلاً ولم يذهب إلى بيته لئلا يوقظه ، فرآه في المسجد ، قال : من أنت ؟ قال : أنا عمر ، قال : أمير المؤمنين ، قال : نعم ، قال : يرحمك الله ألا تنام الليل ؟ فالنص الذي كنت قد قرأته سابقاً ، قال له عمر : إني إن نمت ليلي أضعت نفسي أمام ربي ، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي ، معنى هذا أنه لا ينام الليل ولا النهار ، وهذا فوق طاقة البشر فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ... أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي "
[ البخاري ـ مسلم ـ النسائي ـ أحمد ]
فليس من المعقول مِن إنسان لا ينام أبداً ، بل إذا لم ينَم الإنسان يومين يختل توازنه ، قال تعالى :
[ سورة النبأ ]
فهذه الرواية ، واللهُ أعلم أنه صلى صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة مبالَغ فيها ، فكان عامة الليل يقرأ جميع القرآن في ركعة واحدة ، ستمائة صفحة في ركعة واحدة أيضاً ، فهذا فوق طاقة البشر، فهذه الرواية مبالغ فيها أيضًا .
وعن أبي يوسف قال : بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً يقول لرجل : هذا أبو حنيفة الذي لا ينام الليل ، فقال أبو حنيفة : والِله لا يتحدث الناسُ عني بما لا أفعل ـ هذه الثانية توضح أن الأولى مبالغ بها ـ فكان يحيي بعضاً من الليل صلاةً ، ودعاءً ، وتضرعاً ، هذه الرواية صحيحة ، وتتوافق مع المنطق .
ويقول بعضهم : "ما رأيت رجلاً خيراً من أبي حنيفة" ، المؤمن الصادق مصدر خير ، مصدر أمن ، مصدر عطاء ، بنى حياته على العطاء ، محب للخير ، وكما قيل : ألسنة الخلق أقلام الحق ، فإذا أثنى على الإنسانِ الناسُ جميعاً فهذا دليل صلاحه ، لذلك حينما أثنى بعض الصحابة على إنسان توفي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال النبي وجبت ، أيْ وجبت له الجنة ، كما روى البخاري :" ... أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ قُلْنَا وَثَلاثَةٌ قَالَ وَثَلاثَةٌ قُلْتُ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ "
[ البخاري ـ الترمذي ـ النسائي ـ أحمد ]
ما دام الناس يثنون عليه هذا الثناء ففي الأعم الأغلب أنه صالح ، لذلك قالوا : ما رأيت رجلاً خيراً من أبي حنيفة ، وأبو حنيفة أفضل أهل زمانه .
وقال ابن عيينة : " كان أبو حنيفة أكثر الناس صلاةً " ، الصلاة عماد الدين ، وفي الدين قضية هامة ، أنه مبني على شيئين ؛ على سلوك صحيح ، وعلى اتصال بالله ، وأحياناً الإنسان يميل إلى الضغط ، ويميل إلى فهم الدين فهمًا مضغوطًا ، قال الله عز وجل :
[ سورة مريم ]
الدين حركة نحو الله ، وحركة نحو الخلق ، نحو الخلق خدمةً ، ونحو الله اتصالاً ، إذا أردت أن تلخص الدين كله في كلمتين ح فهو إحسان للمخلوقين ، واتصال بالخالق ، لذلك قال ابن عيينة : " كان أبو حنيفة أكثر الناس صلاةً ، وأعظمهم أمانةً ، وأحسنهم مروءةً " ، وفي الحديث الصحيح عَنْ أَنَسٍ قَالَ : مَا خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا قَالَ لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ".
[ أحمد ]
أحياناً الإنسان يهدر دينه كله بكلمة ، كلمة كذب ، بإخلاف وعد بنقض عهد ، بخيانة أمانة، يهدر دينه ، قولوا له : إنه أبطل جهاده مع رسول الله .
ذات مرة شاهدت بائعًا يبيع بندورة ، وقد فَرَزَ قسمًا جيدًا عن قسمٍ سيِّئٍ جداً ، يبيع الجيد جداً بست ليرات ، والسيئ جداً بليرتين ، لاحظت رجلاً وضع من الجيد جداً إلى ثلاثة أرباع الكيس ، والبائع مشغول ، ثم وضع آخرَ قسمٍ من النوع السيئ ، ووزَنَه ، وحاسب الباع بثمن السيئ ، صدقوني أن هذا الإنسان أهدرَ دينه ، وأهدر صلاته ، وأهدر عمله الصالح ، الدين استقامة ، السيدة عائشة تقول : قولوا له إنه أبطل جهاده مع رسول الله .
بصراحة هناك أعمال إذا فعلها الإنسان تحوِّل عباداتِه وأعمالَه الصالحةَ إلى الحاوية ، صلاته ، وصيامه ، وأذكاره حضور المساجد ، إذا كان يغدر ، يأخذ ما ليس له ، يكذب ، يحتال ، إنسان تمكن بقوته أن يأخذ بيتاً ثمنه خمسة عشر مليوناً بتسعمائة ألف ، بعد أن تملكه، بل بعد أن اغتصبه عرضه للبيع بخمسة عشر مليون وهو لا يقطع الصلوات في المساجد ، السيدة عائشة تقول : قولوا له : إنه أبطل جهاده مع رسول الله ، قولوا لمثل هذا الإنسان : إنه أبطل عمله ، وأبطل صلاته ، دقق أيها الأخ ، من علامات آخر الزمان أن الإنسان يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ، يبيع دينه بيمين غموس كاذبة ، يبيع دينه ببيت يغتصبه ، قال تعالى :
[ سورة التوبة ]
إنّ اتصالك بالله أغلى عليك من بيت ثمنه ثلاثون مليونًا ، وقد استأجرته بمائة ليرة في الشهر بقوة القانون ، اتصالك بالله ، ورضاؤه عنك أغلى من كل شيء في دنيا الناس ، لا يستطيع الإنسان أنْ يوازن حينما يسقط الشخص من عين الله ، ويكسب الدنيا كلها ، فهو أكبر الخاسرين .
قال ابن عيينة : "كان أبو حنيفة أكثر الناس صلاةً ، وأعظمهم أمانةً ، وأحسنهم مروءةً " ، عندنا في ميزان الأخلاق كلمة مروءة ، وكلمة لؤم ، والحقيقة هذه أخلاق جامعة ، الخسة ، والدناءة ، والبخل ، والكبر ، والأنانية ، تُجمَع في كلمة لؤم ؛ بينما الكرم ، والعطف ، والرحمة ، والشفقة ، والشجاعة ، والإقدام ، والعفو ، تجمع في كلمة مروءة ، فالمروءة مجمع الفضائل ، واللؤم مجمع الرذائل .
لذلك فالذي سرق الفرس قال له صاحبها : لقد وهبت لك هذه الفرس ، ولن أسأل عنها بعد اليوم ، ولكن إياك أن تُشيعَ هذا الخبر في الصحراء ، فتذهب منها المروءة ، وفي ذهابها يذهب أجمل ما فيها ، حياتنا أجمل شيء فيها أنْ يكون لك جار محب ، إذا سافرت يحفظ أهلك ، أجمل شيء في الحياة أخ في الله معك دائماً يعينك ، سند لك ، مستشار لك ، معين بأفكاره ، بعواطفه ، بماله ، بنصيحته ، الحياة من دون قيم لا قيمة لها ، والحياة من دون تعاون جحيم لا رحمة فيها ، والحياة من دون حب لا خير فيها .
ذات يوم أقيم حفل وداع لأستاذ في الجامعة ، كان أستاذا لنا ، الحفل كان موفقاً جداً ، بعد أن أُلقِيت الكلمات في الإشادة بعلمه ، وفضله قام هو خطيباً ، فقال : كل إنسان لا يشعر بحاجة إلى أن يُحِب الآخرين ، أو أن يُحَب مِن قِبَل الآخرين ، ومن لا يحِب ولا يُحَب فليس من بني البشر ـ ليس إنسانًا ، بل هو وحش شرس.
يجب أن تشعر بحاجة هي أن تحِب ، ماذا تحِب ؟ أن تحب الله ، أن تحب الحقيقة ، أن تحب الأنبياء الكُمَّل ، قمم البشر ، أن تحب المؤمنين ، أن تحب الكاملين ، أن تحب المحسنين ، إذا كان قلبك لا يخفق بحبٍ لإنسان كامل فأنت لست من بني البشر ، وينبغي أن تشعر بحاجة لا إلى أن تُحِب فحسب ، بل إلى أن تُحَب أيضًا ، يجب أن تعطي من وقتك ، ومن مالك ، ومن عواطفك ، ومن مشاعرك ، ومن نصيحتك ،ف الإنسان الذي لا يجد في نفسه حاجة إلى أن يُحِب ، ولا إلى أن يُحَب فهذا ليس من بني البشر .
حياة من دون حب كزرع بغير ماءٍ ، حياة من دون قيم لا قيمة لها ، من دون أخ في الله صادق لا يكذبك ، صالح لا يخونك ، مخلص نحوك لا خيرَ لها ، أنتم لا تعرفون قيمة ، أن لك مسجدًا ، ولك إخوانًا ، هذه نعمة ، واللهِ لا تقدر بثمن ، الإنسان يأنس بإخوانه ، يمكن أنه سمع الحديث سابقاً ، لكن وجوده في المسجد ولقاءه مع إخوانه يلقي في قلبه الطمأنينة ، كأنه غُسل ، والإنسان يُشحن في الدرس ـ مرة جاءتني بطارية تُشحن بالكهرباء ، فلما أنسى أن أشحنها ، وأنا بحاجة إلى أن أستعملها ترى ضوءها خافتًا ، يكاد ينطفئ ، وحينما أشحنها جيداً يصير ضوؤها كالشمس ـ قلت : هذا حال المؤمن أيضًا ، فلابد له من شحن ، أنت لا تقلل من قيمة هذا الدرس ، درس العلم شحن ، تشحن عواطفك ، تشحن مشاعرك ، تشحن أفكارك، تأخذ طاقة جديدة وتُغسَل أيضاً ، لأنك دخلت إلى بيت الله عز وجل ، ألا إنّ الإنسان إذا دخل بيت جاره أو صديقه فإنّه يكرمه ويضيفه ، ولو بالماء ، فالحد الأدنى الأدنى الأدنى شربة ماء بارد ، وإذا دخلت إلى المسجد فأنت في بيت من بيوت الله ، وحقٌّ على المزور أن يكرم الزائر، لكن الله لا يضيفك شيئًا تأكله ، بل يقذف بالسعادة فإذا هي تملأ نفسك ، وطمأنينة ، وتوفيقًا في حياتك ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ... إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ ".
|
| |