مقدمة:
الحمد لله الملك الديان، الرحيم الرحمن، الذي فضَّل شهر رمضان، وأنزل فيه القرآن، هدى للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان، أحمده وأشكره على جزيل الفضل والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى عن مشاركة الأنداد والأوثان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد ولد عدنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حقَّ تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، فأطيعوا أمره ولا تخالفوه فتكونوا من الخاسرين، واذكروه في كل حالاتكم، ولا تكونوا عن ذكره من الغافلين، واشكروه على نعَمِه وآلائه، ولا تكونوا من الكافرين، واعلموا - عباد الله - أن ربنا سبحانه خَلقَنا لعبادته، وأَمرَنا بتوحيده وطاعته.
شهر رمضان نعمة كبرى:
لقد أنعم الله علينا نعمة كُبرى؛ حيث بلَّغنا شهر رمضان، وقيامه نعمة عظيمة وفضل كبير لمن وُفِّق لذلك؛ لما في هذا الشهر الكريم من أسباب المغفرة، ومن أسباب العتق من النار، فمن بلَّغه اللهُ هذا الشهرَ بأنْ مدَّ في أجله حتى أدرك هذه الأيام الغُرَّ، وهذه الليالي الزهر، فقد تكرَّم عليه وخصَّه مما حرم منه غيره، فكم من أناسٍ، وكم من أفراد اختتمت آجالهم قبل حلول هذا الشهر، وختم على أعمالهم.
إنه قد نزل بنا شهر كريم، وموسم عظيم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185 ] فهو شهر البركات والخيرات، شهر إجابة الدعوات، شهر إغاثة اللهفات، شهر إعتاق الرقاب الموبقات، شهر النفحات، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِم خيرَها فقدْ حُرم، مَن تقرَّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمَن أدَّى فريضة فيما سواه، ومَن أدى فيه فريضة كان كمَن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهرُ الصبر، والصبر ثوابُه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه في رزق المؤمن، من فطَّر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وعتقًا لرقبته من النار، يعطي الله هذا الثوابَ لمَن فطر صائمًا على مذقة لبن، أو شربة ماء، أو تمرة، ومَن أطعم فيه صائمًا وسقاه، سقاه الله من حوض النبي - صلى الله عليه وسلم.
شهرٌ أوله رحمه، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فالرحمة للمؤمنين عمومًا، يتفضَّل الله عليهم ويرحمهم بواسع رحمته، فهو أرحم الراحمين، والمغفرة للمذنبين الذين كانوا قد أخطؤوا وارتكبوا بعض المخالفات، فإذا تابوا وأنابوا وأقبلوا إلى ربهم في هذا الشهر فإنه سبحانه يغفِر لهم ما كان من ذنوبهم، ويمحو سيئاتهم، وذلك فضله وواسع رحمته، وإن لم تبلغ ذلك أعمالُهم، كذلك في آخره يعتق الله تعالى أهلَ الذنوب من الموبقات، يُعتقهم من النار ويؤهلهم لدخول الجنة، ما لم يعودوا إلى رقِّ الأوزار والذنوب، فالتمسوا رضا الله - سبحانه وتعالى - وذلك لأنه - سبحانه وتعالى - يقبل التوبة عن عباده.
ورد فيه من الفضل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل رمضان فُتِّحت أبوابُ الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وسُلسلت الشياطين، وفتحت أبواب الرحمة فلم يغلق منها بابٌ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وسلسلت مردة الشياطين))؛ وذلك لكي لا يتمكنوا من إغواء المسلمين من أمة محمد الأمين، ((ينادي فيه منادٍ كل يوم: يا باغي الخير أقبلْ، ويا باغي الشر أقصرْ، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة)).
فعلى المسلمين أن يتوبوا ويتقربوا إلى ربهم بالأعمال الصالحة التي يُحبُّها الله سبحانه، ويرتب عليها العتقَ من النار، ومغفرة الذنوب والأوزار، ليكونوا من عباده المخلصين، وعليهم أن يستقبلوه بتوبة صادقة، يتعهَّدون فيها ألاَّ يعودوا إلى الذنوب التي كانوا قد اقترفوها في سابق أعمارهم، فيقلعوا عنها ويتركوها كليًّا، ويندموا ويتأسفوا على ما مضى منهم من الخطايا والذنوب، والتقصير في حق علام الغيوب.
وكذلك عليهم أن يعاهدوا ربَّهم على أن يستمروا على هذه الأعمال الصالحة بقيةَ أعمارهم؛ حتى يقبل الله تعالى منهم، ويغفر لهم، وهو أرحم الراحمين، عليهم أن يسارعوا إلى الخيرات، وأن يتسابقوا إلى درج الجنات، وأن يُكثروا من الحسنات، ويتوبوا من السيئات؛ حتى يعتقهم الله من آثام الخطيئات، فيكونوا عُتقاءه من النار، ويغفر لهم ذنوبهم، يسارعون كما أمرهم الله بقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 133 - 135].
اغتنام أوقات الفضائل:
على المسلم أن يغتنم أوقات الفضائل؛ مثل هذا الشهر، فإنه ليس له عِوَض، وليس لأيامه بديل، فهي الأيام الشريفة، وهي الأيام الفاضلة، التي مَن حافظ عليها وحفظها واستغلها في طاعة الله، وأقلع فيها عن المعاصي والمخالفات؛ غفر الله تعالى له ورحمه، وأعتقه من عذابه، وأما مَن أهملها واستمر في لهوه، فإنه سيندم غاية الندم عندما تغفر ذنوب التائبين، ويبقى المذنبون المصرون على السيئات محرومين من فضل الله، محرومين من مغفرته، يحظون بالبعد عن ربهم، وعن جزائه الأوفى، فيا عبادَ الله مَن لم يُغفر له في هذا الشهر فمتى يُغفر له؟! الشجر الذي لا فائدة فيه ولا ثمر، لا يصلح إلا أن يكون وقودًا للنار، ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لما صعد المنبر: ((آمين، آمين، آمين))، فقيل له في ذلك، فقال: أتاني جبريلُ - عليه السلام - فقال: يا محمد، رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان، ثم خرج ولم يُغفر له، قُل: آمين، فقلتُ: آمين))؛ وذكر تمام الحديث.
لا شك أنَّ ذلك دليلٌ على أن شهر رمضان موسم العتق من النار، موسم الغفران، فمن دخل عليه رمضانُ وهو مُصِرٌّ على لهوه وسهوه بَعُدَ عن أسباب المغفرة، وهو من المحرومين، ورغم أنفه؛ أي: ذَلَّ وهان وأُبعِدَ عن رحمة الله - سبحانه وتعالى.
صيام رمضان من أسباب مغفرة الذنوب:
ولقد ذَكَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسبابَ مغفرة الذنوب، وذكر منها صيامَ رمضان، قال: ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم مِن ذنبه))، ومعنى ذلك أن الصائم الذي يحمله على صيامه الإيمانُ بالله - سبحانه وتعالى، والتصديقُ بأنه هو ربه، وأنه هو الذي أمر بهذه العبادة، وأنه هو الذي فرضها على المستطيعين وعلى المكلَّفين، وصدَّق أيضًا بأنه ركن من أركان الإسلام، لا يتمُّ الإسلامُ إلا به، وحمله على ذلك أيضًا أن يحتسب الأجر من الله سبحانه، ولا يكون الحاملَ له التمدحُ ولا مجاراةُ الناس، ولا أمرٌ دنيوي، وإنما الذي يحمله على أداء هذه العبادة طلبُ الأجر من الله - سبحانه وتعالى، فمتى كمَّل صيامه، وأتى بما أُمِرَ به، فأمسك عن المفطِّرات، وصام أيضًا عن المحرَّمات، فصامتْ عيناه عن النظر عما حرم الله من العورات والصور الفاتنة وما أشبهها، وصامتْ أذناه عن سماع الغناء واللهو والطرب واللعب وما أشبه ذلك، وعن سماع السخرية والاستهزاء، والتنقص بأبناء الإسلام وبأهله، وعن سماع الغيبة ونحوها، وصام لسانُه عن الكلام السيئ، عن الغيبة والنميمة والكلام المحرَّم وما أشبه ذلك، وصامت بقية جوارحه عن أنواع الإجرام، فإنَّ ذلك سيكون من أسباب مغفرة الذنوب.
فمن لم يكمل صيامه، أو لم يحفظه ولم يتأثر به، فإنه لا يزيده من الله تعالى إلا بُعْدًا، ولا يكون له حظٌّ من هده المغفرة المرتَّبة على هذا الصيام.
فالصيام مِن أقوى أسباب المغفرة، وقد ذكر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقيةَ أسباب المغفرة؛ كصيامه إيمانًا واحتسابًا، وقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، وكذلك كثرة الصدقات والنفقات في الخير، وكثرة ذكر الله ودعائه، كلُّ ذلك من الأسباب التي جعلها الله تعالى سببًا لمغفرة الذنوب، وعتق الرقاب، فمَن أتته هذه الأسبابُ ولم يَحظَ بالمغفرة فإنه من الذين حُرِموا فضل الله تعالى في هذا الموسم العظيم.
فتعرَّضوا - عباد الله - لنفحات الله، فإن لله تعالى من دهره نفحات، نفحات غفران، ونفحات رحمة، ونفحات عطاء ورزق، ونفحات توسعة وفضل، فتوبوا إلى ربكم - سبحانه وتعالى - من الخطايا والسيئات؛ لتحظوا بجزيل الأجر، وعظيم الثواب.
التَّقرُّب بالعبادات إلى اللَّهِ:
وإنَّ من جملة العبادات ما يتقرب به العباد في هذا الشهر الكريم شهر رمضان، فإنهم يتقرَّبون بأنواع من العبادات، فيتقربون بصِيامِه الذي هو فريضة من فرائض الإسلام، ويتقرَّبون بقيام لياليه، ويرجون بِذلك مغفرةَ الذنوب والآثام، ويتقرَّبون بكثرة الصدقات والنفقات في سبيل الله تعالى، يرجون بذلك جزيل فضل ربِّهم سبحانه وإكرامه، ويتقربون بتلاوة القرآن، ويتدبَّرونه ويتعقلون ما فيه من الفوائد والأحكام؛ وبذلك يكونون من أهل الإيمان والإسلام.
إنَّ من جملة العبادات في شهر رمضان قيامَ لياليه، فإنها قُربة وعبادة، بيَّن نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - فضلَ قيامه وحثَّ عليه، وفعل ذلك ورغب فيه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننتُ لكم قيامه))، وكذلك رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله جعل صيامه فريضة، وقيامَ ليلِه تطوعًا))، فأخبر أن قيام هذه الليالي نافلة وتطوع، ولكنه من أسباب مغفرة الذنوب وتكفير الخطايا، وكفى بذلك ثوابًا كبيرًا، وأجرًا عظيمًا، ولكن مغفرة الذنوب في هذا الشهر اشتُرط لها ثلاثة شروط في هذا العمل: شرط القيام، وشرط الإيمان، وشرط الاحتساب؛ فمن كمَّل هذه الشروط رُجي مع حُسن النية مغفرةُ الذنوب، فلا بد من إكمال قيام هذه الليالي، والإكثار من الأعمال التي تطلب في هذا القيام، وكذلك لا بد أن يكون القائم مصدقًا بأن هذا التهجد عبادة وقربة وطاعة، وأن ربنا سبحانه رتَّب عليه المغفرة، وأنه أحبَّ مِن عباده أن يقوموا هذه الليالي ويَقنُتوا فيها، ولا بد أن يكون راجيًا لفضل الله، معترفًا بنقصه وخطاياه، معتمدًا على الله أنه هو الذي يغفر الذنوب، ويقبل الأعمال، ويضاعف الأجور، فمتى كان كذلك رُجي أن تُغفر له ذنوبه، وقد قيل: إن المغفرة للخطايا الصغيرة، أما الكبيرة فإنها تحتاج إلى توبة، فقد ورد أنه - صلى الله عليه وسلم – قال: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان - مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر)).
فهذه الأعمال مكفرات لما بينهن، ولكن هذا بشرطٍ؛ هو اجتناب كبائر الذنوب.
القيام والصِّيام من أسباب المغفرة:
ومن أسباب المغفرة في هذا الشهر صيامُ رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر، وكذلك باقي الأعمال الخيرية؛ كإخراج الصدقات والنفقات في سبيل الله، والذكر والدعاء والأعمال الصالحة، وتجنُّب الآثام، والابتعاد عن الإجرام، فذلك كله من الأسباب التي يغفر الله تعالى بها الذنوب، ويقبل بها الأعمال الصالحات.
لا شك أن من جملة هذه الأعمال صلاةَ الليل، صلاة الليالي الشريفة، ليالي رمضان ليالٍ شريفة، ليالٍ فاضلة، قد أخبر الله تعالى بأنه أنزل فيها القرآن، وفيها ليلة القدر، وأنها خير من ألف شهر، ومن حكمة الله تعالى أن أخفى هذه الليلة؛ حتى يجتهد المسلمون ويقوموا ما تيسر لهم من هذه الليالي، ويقتدوا بنبيِّهم - صلى الله عليه وسلم - ويعملوا بما يقدرون عليه من صفات أهل الإيمان، الذين يحبون الله ويحبون الأعمال الصالحة التي يحبها الله، والتي يثيب عليها جزيل الثواب، وقد مدح الله تعالى الذين يُصلُّون بالليل ويتهجَّدون، فوصفهم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]؛ أي: يقطعون ليلهم، أي: أكثره ما بين سجود وقيام، وخص هذين الركنين؛ لأنهما أكثر وأفضل أركان الصلاة، ولا شك أن معهما أيضًا بقية الأركان، مِن أذكار وأدعية وخشوع وقراءة، مع الإنابة إلى الله تعالى، والطمأنينة في هذه العبادة، وهكذا ذَكَرَ الله تعالى عن عباده أهلِ الثواب وأهلِ الجنة أنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17] هكذا أخبر تعالى بأن من أعمالهم أنهم لا يطمئنون للفُرُش، وأنهم لا ينامون إلا قليلاً، وما ذاك إلا لأنهم يرجون ثواب الله تعالى، وذكر قيامهم وصلاتهم في الليل.
وكذلك وَصَفَ المتقين الذين هم أهل الجنة بقوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18] فالهجوع هو النوم؛ أي: قليلٌ نومُهم بالليل، فقاموا ليلهم يصلون ويتهجدون، ثم في آخر الليل يجلسون يستغفرون، كأنهم مذنبون، هكذا تكون حال الصالحين، يعملون الأعمال الكثيرة، ومع ذلك يَعتبرون أنفسهم مُقلِّون وأنهم مذنبون، فيستغفرون ربهم بعد كل عمل، وهكذا حال الخائفين، ومتى كان العبد كذلك فإن الله تعالى يقبل منه، ويضاعف أجره، وهكذا أهل الفضل، مع عملهم يخشون ألاَّ يُتقبل منهم.
ويقول الله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]، وهذا قائم في ساعات الليل، ليس في ساعة واحدة، وكأنه وصَفَ هذا القائمَ بأنه يقوم ساعة ثم يستريح أخرى، ثم يقوم ثم يستريح، فمِن صلاةٍ إلى راحة، وهكذا ساجدًا وقائمًا يتنقل في صلاته بين السجود والقيام والركوع والقعود، وما في الصلاة من بقية الأركان والعبادات.
ولقد أمر اللهُ تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بالقيام في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1 - 4]، فهكذا وجَّه الله تعالى هذا الأمرَ إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليمتثلَ أمر ربه، وقد امتثل وطبَّق ما أمره به، فكان - صلى الله عليه وسلم - يقوم أكثر الليل ولا ينامُ إلا قليلاً، يتقرَّب إلى ربه بصلاته وبعبادته في الليل طوال زمن النبوة، أي: بعدما أُوحي إليه؛ وذلك لأن هذه السورة نزلتْ عليه أول ما أوحي إليه، أمره الله بأن يقوم الليل إلا قليلاً، نصفه أو ينقص منه أو يزيد على النصف، فامتثل ذلك، كما ذكر ذلك الذين روَوْا صلاته - صلى الله عليه وسلم، وقد رغَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنس قيام الليل، فثبتَ عنه أنه قال: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيامُ الليل))، ولما ذَكَرَ فضائلَ الأعمال ذَكر منها قيامَ الرجل في جوف الليل، وقرأ الآية التي في سورة السجدة: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]؛ أي: إنَّ هذا من أفضل الأعمال.
إطالة الصلاة في ليالي رمضان:
ولقد أُثر عنه - صلى الله عليه وسلم - إطالةُ الصلاة في ليالي رمضان، فأُثر عنه أنه قرأ في ليلة سورةَ البقرة، ثم سورة النساء، ثم سورة آل عمران في ركعة واحدة، يتأنَّى في القراءة، ويقف عند كل آية رحمة فيسأل ربه، وعند كل آية عذاب يستعيذ من العذاب، ثم ركع وأطال الركوع، وهكذا أيضًا أطال الركعة الثانية، لا شك أن ذلك لأنه يتلذَّذ بهذه العبادة، يتلذَّذ بالصلاة، ويجد لها راحة، ويجد لها طمأنينة، وهكذا أيضًا كان أصحابه - رضي الله عنهم - كما ذكر الله تعالى في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل: 20] ذكر أنهم يقومون قريبًا من ثلثي الليل، وقريبًا من نصفه، أو على الأقل ثلثه، والليل في هذا الزمان في هذا الشهر اثنتا عشرة ساعةً، فمَن قام ثلثي الليل فإنه يقوم ثماني ساعات، ومَن قام نصفه قام ست ساعات، ومن قام ثلثه قام أربع ساعات، ومع ذلك فإن القائمين يتلذذون بالقيام، يجدون له راحة، وما ذاك إلا أنه عبادة وقربة وطاعة للرب - سبحانه وتعالى، هكذا تكون العبادة عند الخائفين، كما روي عن بعض السلف - رحمهم الله - أنَّه قال: كابدتُ قيام الليل عشرين سنة، وتلذذت به عشرين سنة؛ أي إنه وجد لقيام الليل عشرين سنة لذةً وراحة وطمأنينة؛ ذلك لأنهم يحبون العبادة، ويحبون التقرُّب بها إلى الله، وإن من جملتها قيام الليل.
وكذلك ذُكر عن سعيد بن جبير أنه صلَّى العشاء، ثم استمر في الصلاة إلى صلاة الفجر لم يضطجع ولم ينتقض وضوؤُه، عشرين سنة يصلي الفجر بوضوء العشاء، وما ذاك إلا لتلذذهم بهذه الصلاة، وهكذا أُثر عن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة لا يَضَع جَنبَه على الأرض؛ بل يقطع ليلَه كلَّه في هذه الصلاة، هكذا تكون حال العابدين الذين يتلذذون بذلك، يقول قائلهم: أهل الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللَّهو في لهوِهم، يريد بأهل الليل: أهلَ التهجُّد، الذين يقطعون ليلهم في صلاة، وفي قراءة وفي ذكر، وفي قيام وقعود، وركوع وسجود، يجدون لذلك لذة، يجدون له سلوة وراحة، أعظم من الذين يسهرون ليلهم على اللهو والغناء، ونحوه.
هذه حال العارفين، وإذا كان ذلك في طوال العام، أليس لهذا الشهر مَزيَّة؟ وله خصوصية؟ ألسنا أولى بأن نهتم بقيام هذه الليالي، وأن نحافظ عليها، كما كان السلف - رحمهم الله - يحافظون عليها ويزيدون في الاشتغال بها، ويرجون بذلك جزيل الثواب، ويقتدون في ذلك بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - الذي أمره ربه بذلك في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 78 - 79].
واعلموا عباد الله: أنَّ شهركم هذا شهر كريم، خصَّه الله تعالى بالفضل، وأنزل فيه القرآن، وفرض عليكم صيامه، وكان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - القدوةَ في ذلك، وكذلك أصحابه - رضي الله عنهم - كانوا قدوة لمن بعدهم، حيث كانوا في هذا الشهر يقومون ما تيسر من هذه الليالي الشريفة، فكانوا يُصلُّون ثلاثًا وعشرين ركعة كل ليلة من هذه الليالي، يقطعونها في نحو خمس ساعات أو أكثر، وكلما صلَّوا أربع ركعات استراحوا نحو عشر دقائق، أو ربع ساعة؛ لأنهم يصلُّون تلك الركعات في ساعة كاملة، ثم يقومون فيصلون أربع ركعات في ساعة، ثم يستريحون أيضًا ربع ساعة أو عشر دقائق، ثم يقومون فيصلُّون أربع ركعات في تسليمتين لمدة ساعة، وهكذا حتى يكملوا عشرين ركعة، ثم بعد ذلك يصلون الوِتْر، ولذلك سموا صلاة هذا الشهر صلاة التراويح؛ وذلك لأنهم يستريحون فيها بعد أربع ركعات، كذلك أيضًا كانوا يُطيلون القيام، حتى كانوا يعتَمِدون على العِصِيِّ من طول قيامهم، ومع ذلك لا يملُّون ولا يكسلون، ولا ينامون إلا قليلاً، ربما أنهم يُصلون خمس ساعات أو ستَّ ساعات كل ليلة، وربما يصلُّون إلى آخر الليل، حتى إذا رجعوا إلى أهلهم استعجلوا السحور؛ حيث لم يَبقَ إلا وقت التسحُّر.
وكذلك أيضًا الهدي النبوي، صلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة إلى نحو ثلث الليل، ثم صلى ليلة أخرى إلى نصف الليل، ثم صلى ليلة ثالثة إلى ثلثي الليل، وقالوا له: لو نفلتنا ليلتنا؟ - أي صليت لنا بقية ليلتنا - فقال: ((مَن صلَّى مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة))؛ ترغيبًا منه أن يصلوها مع الأئمة، فكانوا يحافظون على صلاتها بعد ذلك جماعة، هكذا كانوا يسهرون ليلهم بعد ذلك جماعة على هذه الصلاة، أما نحن في هذه الأزمنة فقد ابتلينا بالكسل، وبضعف الإيمان، وبقلة الاحتساب، حيث لا يصلي في المساجد إلا القليلُ، برغم أنهم ليسوا في شغل شاغل، لكن ضعفت الإرادات، ضعف اليقين، ضعف الاحتساب، ضعف الإيمان، ومع ذلك فإن الأئمة في هذه الأزمنة صاروا يخفِّفون ترغيبًا للناس، فكثير منهم لا يزيدون على ساعة في صلاة الليل، أو ساعتين، أين تلك الساعة من صلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي يصلِّي ثلثي الليل؟! أين تلك الساعة من صلاة الصحابة الذين يصلون أكثر الليل؟ أين تلك الساعة من صلاة المتهجدين من التابعين، وأهل الإحسان والإيمان، الذين لا يملون من الصلاة،؛ بل يتمنَّون طولها، يتمنون أن يقوموا طوال الليل؟! أما نحن فإنا قد غلب علينا الكسلُ.
لا شك عبادَ الله أن الناس في هذه الليالي لا ينامون إلا القليل مع طول الليل، فالكثير منهم لا ينامون، ومن نام منهم فإنما ينام ساعتين أو ثلاث ساعات من آخر الليل، فعلى أي شيء يسهرون في لياليهم؟
أقسام الناس في القربات:
إذا نظرنا إلى الناس في هذه البلاد وجدناهم أقسامًا: فقِسْم منهم مَنَّ الله تعالى عليهم بمحبَّة الصلاة، فيصلون خمس ساعات، إما مِن أول الليل أو من آخره، وربما صلوا ستَّ ساعات أو ما أشبهها، فيصلون تضرعًا ومحبة، فيخشعون فيها ويخضعون، فهؤلاء خيرة الله، فهؤلاء صفوة الله تعالى من خلقه، فهؤلاء أهل التقوى، هؤلاء هم الذين مدحهم الله تعالى بقوله: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون} [الذاريات: 17]، وبقوله: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64].
وهناك قسم ثانٍ من خير الأقسام أيضًا، وهم الذين يبيتون ليلهم يقرؤون كلام الله تعالى، جماعاتٍ وفرادى، ويتدبرونه ويتعقلونه، يجدون فيه لذتهم وسلوتهم، فهؤلاء من خير الأقسام، حيث إنهم قطعوا ليلهم في عبادة، في قراءةٍ وتدبرٍ، وذكرٍ ودعاءٍ، ونحو ذلك.
وهناك قِسْم ثالث يقطعون ليلهم في تنمية أموالهم، فصاحب التجارة ينمي تجارته طَوالَ ليلِه، يحسب رِبْحِه بالدرهم، ويترك تلاوة كتاب الله والتقرُّب إليه بهذه الصلاة، وصاحب الصنعة يعمل في حرفته يدويَّة أو نحوها، يربح ربحًا دنيويًّا، ولو فاته الخير، ولو فاتته العبادة، ولو فاته التهجُّد والتقرُّب، يقدمون المصالح الدنيوية وما أشبهها، وهؤلاء يظهر أنهم عبيد للدنيا، حيث قدَّموا دنياهم على مصالح الآخرة.
وهناك قسم رابع يقطعون ليلهم في سهوٍ ولهوٍ، بغير فائدة، فمنهم مَن يقطع ليلَه في مجالس القيل والقَال، وفي مجالس الكلام الذي لا أهمية له، ومنهم مَن يقطعون ليلهم في التسكع في الأسواق، والذهاب والإياب، ليس لهم حاجة إلى بيع ولا شراء، وإنما يتنقلون ذهابًا وإيابًا، أو تجدهم أيضًا جلوسًا على الأرصفة ليس لهم إلا تجارة التحدث بما لا أهمية له، ثقلت عليهم الصلاة، ثقلت عليهم العبادة، ثقل عليهم القرآن، ثقلت الشريعة، وهان عليهم التسكع والتنقل، وقطعوا الليل يريدون بذلك أن يناموا بالنهار، فلا يشعروا بألم جوع أو ظمأ في صيامهم، وهذا مقصد سيئ.
وهناك قسم خامس، يقطعون ليلهم في المعاصي - والعياذ بالله - فهم يتركون العبادة، ويشتغلون بالمعصية، فتجد الكثير منهم عكوفًا على آلات اللهوِ، أو ينظرون إلى الأفلام الخليعة، ينظرون إلى الصور الفاتنة التي تبثها تلك القنوات الفضائية، والتي تعرض في الشاشات أمام الناظرين، يختارون أفلامًا خليعة يعرضونها في تلك الشاشات، أو يتلقون ما تبثه تلك الإذاعات، التي تفسد العقول والأخلاق، تدعو إلى الفساد، تدعو إلى ارتكاب الجرائم والمحرمات، ومع ذلك تفوتهم الخيراتُ، لا شك أن هؤلاء حَرموا أنفسَهم فضلَ الله تعالى ومغفرته، وارتكبوا المحرمات، وهكذا أيضًا كثير يقطعون ليلهم على شرب الدخان، وتعاطي المخدرات، وشرب المسكرات، وسماع الأغنيات، وما إلى ذلك، فجمعوا بين ترك الطاعات وفعل المحرمات.
لا شك أن هذا تفاوت كبير بين المسلمين في هذه الليالي، فالذين يريدون الخير يجدون أبوابه مفتحة، أبواب الجنة قد فتحت، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار)).
فأين المتسابقون؟ أين المسارعون إلى الخيرات عبادَ الله؟ ألا تنتهز الفرص؟ ألا تغتنم الأوقات الشريفة؟ ألا تغتنم أيام هذا الشهر ولياليه؟ نستغلها فيما يقربنا إلى الله، بما يسبب لنا مغفرة الذنوب والعتق من النار؛ كما كان ذلك حال سلفنا الصالح، وحال قدوتنا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم.
اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، نحن المذنبون وأنت الغفور، نحن الفقراء وأنت الغني، نحن عبادك وأنت مالكنا، أنت ربنا وخالقنا، أنت الذي تكفَّلت بأرزاقنا، أنت الذي تكفلت بأقواتنا، اللهم لا تمنع بذنوبنا فضلك، اللهم اغفر ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم